هل فائض الموازنات من مظاهر هدر المال؟
إن الحديث عن الفساد المالي ثابت راسخ وهدف سامي سامق لإجتثاث أسباب الفساد وسد ذرائعه ، ولكن أمر مهم يشغلني وهو أمر الهرف في سطحيات واقع الفساد المالي دون الخوض في الحلول، ولكني تجاوزت ذلك الأمر بوضع المشكلة والحل في مقال واحد. من جهة أخرى ، نصحني أحدهم بعدم الكتابة في قضايا تستفز أفرادا سلطوين أو إستنفار جمهور الناس لقضايا حساسة، لذلك و بتلك النصحية حاولت أن أستنفر ذهني بكتابات ترضي الطرفين، بحيث تهتم بأمر الناس وفي المقابل لا تستفز أحدا من أولائك المعنين ، فعسى أن لا يفيض المداد دون أن أعلم في أي صفحة وقع.
في هذه المرة لن أخوض في التعاريف والنظريات فكم هي مملة وحديثي عن الفساد المالي والصرف الهمجي للمال العام وهو متنوع الأشكال والمظاهر، وبمعناه السطحي المعروف ، هو صرف المال المخصص من غير مسؤلية ولا إكتراث يكون على أشكال متعددة منها الصرف دون وضع هدف وتغييب كامل لنتائج هذا الصرف، وهذا هو محور حديثي، فلن أخوض في الإختلاسات ولا السرقات ولا الرشوة ولا أشكال الفساد المالي المبطن ببطان المشاريع والمناقصات، ولكنه حديث سيسترسل في وصف صرف مقدرات وثروات الوطن دون مبالاه ولا وعي بالنتائج.
ففي أحد حواراتي التفكرية التصويرية مع خبير مالي إلتقيت به في أحد الدول، وبعد أن تعرف علي ، سألني ما حجم الفساد المالي عندكم في سلطنة عمان؟ أجبته وبطريقة عفوية جدا ، عمان تمتلك نظام مالي قوي يعينها منذ ثلاثين عاما أو أكثر على تسير موازنات الحكومة والإنفاق العام ، تبسم وقال وكيف يتم الإنفاق؟ قلت له أنظمة مالية متبعة تقضي بصرف المال حسب نظام (أساس النقد) العالمي وهو قديم ولكنه فعال ولدينا أنظمة وتطبيقات تسهل العمل به، ويكون الصرف من موازنات متكررة وموازنات مخصصة للمشاريع، ومن ثم إستطرقت قائلا بأن الحكومة الأن بصدد تنفيذ مشروع تغيير النظام المحاسبي المالي المتبع بنظام جديد وهو الصرف على (أساس الإستحقاق).
قال لي وما النفع الذي سيجلبه النظام المحاسبي الجديد؟ قلت له ببساطة سيحتسب ما تنفقه الحكومة في المشاريع التنموية كممتلكات وتكون لها قيمة عينية ، فبدل أن تكون كلفة المدرسة مليون ريال ، مصروف دون عودة ، سيحسب لهذه المدرسة قيمه عينية تدخل في قيمة ممتلاكات الحكومة مع حساب الإنخفاض السنوي ، قال وما دخل هذا في الفساد المالي؟ قلت له تظهر التقارير السنوية للدخل والصرف ويساوى الداخل بالخارج مع حساب الموجودات، قال لي وكيف ينظم الخارج من المال؟ قلت له التحكم بالموازنات ، قال فاتك شيء؟ فسكت عنه، لأني أدركت ما يقصده.
كما أسلفت الرجل خبير مالي قديم ولربما عمره يتجاوز الستين عام، قال بعد أن توقفنا للحظة، أنا في بلدي ما يذهب للشعب والتنمية لا يساوي 30% من الناتج المحلي الإجمالي، فكم يذهب للشعب من دخلكم؟ قلت له بعد خصم حصص الشركات المنقبة والمنتجة للنفط وبعض المصاريف التشغيلية وهنا وهناك، الحصة المتبقية كلها تذهب للشعب والتنمية، أدرك الرجل أني لن أنشر غسيلي له وله مآرب المقارنة حيث أدركت أنه لربما سيكون السؤال التالي، وكم دخل الفرد منكم من هذه الحصة المتبقية؟ وتساوي بلايين الريالات مع حساب عدد الناس البسيط، مقارنة ببلده والتي يتجاوز عدد سكانها الثمانيين مليون ونصيب الفرد لا يتجاوز ال500 دولار سنويا.
مر عام وإلتقيت بهذا الخبير عندما كنت في مؤتمر وكان هو أحد المدوعين لتقديم ورقة بحث عن أدوات كشف الفساد المالي، لم أكن أعلم أن حواري السابق معه كان جزء من ورقته وأنه سيتطرق إلى أن ضبط الموازنات الحكومية بأنظمة حديثة لا يعني بالظرورة مراقبة الفساد المالي وإستئصاله، ولكن على كل الحكومات أن تعمل على تنفيذ مجموعة من الأدوات المساعدة للسيطرة والتحكم بالمصروفات ومنها تفعيل هيئات رقابية داخل أجهزة العدالة والدعوة الى مباديء العقيدة الإسلامية في مكافحة الفساد المالي، وكذلك تحدث عن تفعيل دور الإعلام ودعم الصحافة بشتى السبل في إبراز الصورة السيئة للفساد المالي ، هذا مع إلتزام الجهات التنفيذية بتطبيق كافة الأدوات المتوفرة ، ومن الأدوات التي شدتني إليها هو صرف مكافئة لكل من يدلي بأدلة يثبت فيها وقوع فساد مالي في الحكومة ، وعلى حجم المشكلة تكون المكافئة.
بعد إنتهائه من طرح ورقته وكانت الأخيرة وأثناء الوقت المخصص للإستراحة ، ذهبت لأسلم عليه وقلت له ، ألا زلت تذكر حديثنا السابق حتى أصبح جزء من ورقتك، ضحك وقال كنت قد أحببت في تلك المحادثة أن أتحدث عن هذه الأدوات ولكنك وطني درجة أولى ، قلت له وهل تقاس الوطنية بمدح الوطن أم بذمه؟ ، قال لي دعك من هذا الأن ولتخبرني عن كيف يهدر المال العام لديكم في عمان؟ قلت له: تقصد كيف يصرف المال العام ، قال الصرف بعينه ينقسم الى قسمين صرف معلوم مخطط له مسبوق بإستراتيجيات ونتائج معلنه وصرف همجي عشوائي يسمى هدر ، فأيم الطرق تسلك حكومتكم؟ قلت له سأتحدث عن الموازنات ولن أخوض في المشاريع والمناقصات، قال لك ذلك، قلت يعتمد على صاحب القرار في مؤسسة بعينها، فالموازنات مقسمة وتعطى كل جهة حكومية نصيبها بداية كل عام ، قال وهل يتم إرجاع الفائض من الموازنات؟ يعني لو بقي مليون من الموازنة هل سيعود إلى الموازنة العامة ، قلت له مرة أخرى يعتمد على فكر صاحب القرار في تلك المؤسسة، وعادة يصرف المتبقي في أي شيء كي لا تنقص الموازنة مليون ريال في العام الجديد، وهذا ما يحصل عادة عندما يتكرر فائض لمؤسسة ما ، حيث تقوم الجهات المعنية بتخفيض الموازنة لتلك المؤسسة حسب الصرف وإنقاص الفائض، وهذا ما تتفاداه كل المؤسسات فيتم العبث بذلك الفائض، قال لي هل يمكن تسميت ذلك فساد مالي؟
في تلك اللحظة، إنتهى وقت الإستراحة وبدء طرح الأسئلة ، وكنت قد أعددت سؤالا عاما ومن ثم قلت، لما لا أرجع له سؤاله الأخير! فرفعت يدي وقال تفضل قلت له : كيف يُدان الهادر للمال حينما يكون ذلك المال قد خصص وعَبَر خلال القنوات القانونية كموافقات الإدارات العليا والتدقيق؟ كيف نثبت أن ذلك المال أهدر في غير محله؟ فعلى سبيل المثال صرف الفائض من الموازنات في شراء عبثي لمستلزمات ورقية وإلكترونية ، فبعض المؤسسات قبل إنتهاء السنة المالية تقوم بتغيير جميع الطابعات والحواسيب وبناء وحدات جديدة لا يستفاد منها وإعادة تقسيم المكاتب ويصل مجموع الفوائض بملايين الريالات من الوحدات العشرية؟ وهل يسمى هذا فساد؟ والسؤال الثاني عن الفساد بشكله العام ، هل الفساد المالي ظاهرة في الدول النامية أم أنها عالمية وحتى الدول المتقدمة تعاني منها؟
إرتسمت الإبتسامة وأنا أقرأ عليه سؤالي و قال لي السؤالين يحتاجا بحث ولكني سأجيب بإختصار:
أما عن كيفية إدانة مهدرين المال العام فيكون عن طريق تدقيق رقابي يوازن بين أهداف الصرف و بين نتائجه ، فعلى سبيل المثال لو قامت المؤسسة بإستبدال عشرة طابعات قيمتها 25 ألف ريال ، ينظر إلى الهدف وهو إستبدال الطابعات وإلى النتائج وهو رمي طابعات أخرى لم يمضي على وجودها سنتين أو ثلاث، هنا تتم المحاسبة وتصل العقوبة حتى السجن والإتهام بالفساد ، وقم بقياس هذا المثال على كل ريال يخرج ولا يعرف ما هدف صرفه وما النتائج المترتبة عليه.
أما سؤالك الثاني فسأقتبس لك من مقال للأخ الكاتب الكبير (وليد خالد صالح الدليمي):
” … وقد استفحل الفساد في السنوات الأخيرة في الدول المتطورة أو الأكثر تقدماً وفي الدول النامية، فقد أدت فضائح الفساد الى تغيرات في أعلى المستويات الحكومية في هولندا وألمانيا وبريطانيا واليابان والولايات المتحدة. أما الدول النامية، فهي عرضة أكثر من غيرها لما يسمى الفساد الحكومي لاسيما عندما يؤدي القطاع العام دوراً كبيراً ومركزياً في المجتمع، الأمر الذي يعني بأن ليس للفساد هوية أو طابع سياسي محدد فقد عرفته على حد سواء الأنظمة الشمولية والديمقراطية. فهو قابل للانتشار في أي وسط سياسي كان بمستويات مختلفة تظهر بثلاثة أشكال اساسية هي:
- المستوى الرئاسي:
ويتعلق هذا الشكل من الفساد بذروة الهرم السياسي أي فساد الرؤساء والحكام من خلال استغلال سلطاتهم لتحقيق مكاسب شخصية بطرق غير مشروعة وهو من أخطر صور الفساد وانتشر بكثرة في البلدان الافريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية حيث سجل بعض رؤساء هذه الدول ارتكابات مالية هائلة وغير مشروعة باستغلالهم لموقعهم. فالرئيس الفلبيني السابق ماركوس قدّرت ثروته قبل هروبه بنحو ثلاثة مليارات دولار، والأمثلة الأخرى كثيرة على ذلك أمثال الرئيس الهاييتي جان كلود والاندونيسي سوهارتو وكبار المسؤولين في المكسيك حيث تحولت مناصب هؤلاء وآخرين غيرهم من مناصب للخدمة العامة الى مناصب لجني الثروات الشخصية عبر استغلال النفوذ وقبض الرشاوى والعمولات بسلوك مباشر أو غير مباشر عن طريق زوجاتهم وأبنائهم وأقاربهم وأصدقائهم المحسوبين عليهم.
- المستوى المؤسسي:
وهو فساد بعض أعضاء السلطات الثلاث: التشريعية، القضائية، التنفيذية ولعل من أخطر صور الفساد المؤسسي هو فساد الوزراء وكبار المدراء وأعضاء البرلمان من ممثلي الأحزاب السياسية وكذلك القضاة لاسيما عندما تتداخل المصالح الشخصية لعينة من هؤلاء فيما بينها حيث يزداد حينها ضرر المصلحة العامة وتتعثر المشاريع والخطط التنموية.
- المستوى الاداري:
وهو فساد بعض الموظفين في المستويات المتوسطة والدنيا من الهرم الاداري وعلى الرغم من انحسار قضايا الفساد بهذه الأمور الصغيرة التي تتم بين الموظف العام والعميل صاحب الخدمة لقاء تسهيل معاملته وانجازها بأسرع وقت ممكن وبطرق ملتوية فان أثرها شديد الوقع في المصلحة العامة عندما تنتشر كظاهرة متعارف عليها في مختلف ادارات الدولة وخاصة الكمارك والشرطة والدوائر ذات الشأن في ابرام العقود والمناقصات وغيرها ….. ”
إنتهى الوقت المتاح للإسئلة ، وذهبت للفندق أراجع إن أخطأت في حق أحد أو أني طعنت في وطنيتي ببعض الحقائق عن أشكال ومظاهر الفساد المالي.
________________