سعد عنتر سعد مراقب
الجنس : عدد المساهمات : 2517 نقاط : 6975 العمر : 33
| موضوع: القصة الكاملة للجاسوس المصري رأفت الهجان الثلاثاء 10 نوفمبر 2009 - 19:33 | |
|
أشهر الجواسيس : بقلم رأفت الهجان.. شخصياً
الفصل الاول :
يبدأ (رفعت في رواية قصة حياته، منذ مولده، في مدينة (دمياط)،
في الأوَّل من يوليو 1927م، لأب ( علي سليمان الجمّال)، تاجر فحم بالجملة، وأم (رتيبة علي أبو عوض)، من أسرة راقية، تتحدَّث الإنجليزية والفرنسية، اللتين تعلمتهما في إحدى المدارس الخاصة..
وفي بداية مذكراته، يتحدَّث (رفعت علي سليمان الجمَّال) عن أخيه غير الشقيق (سامي)، وعن شقيقه (لبيب) و(نزيهة)، ويؤكِّد احترامه وتقديره الشديدين للأخ غير الشقيق (سامي)، الذي تولَّى شئون الأسرة كلها، بعد وفاة الأب عام 1936م، والذي كان مدرساً خصوصياً للغة الإنجليزية، لأخوي الملكة (فريدة)، مما يعني أنه كان يتمتَّع بمكانة محترمة للغاية..
وفي (مصر الجديدة)، نشأ (رفعت) وترعرع، تحت رعاية (سامي)، الذي نقل الأسرة كلها إلى (القاهرة)، بعد وفاة الوالد، والتحق (رفعت) هناك بمدرسة للتجارة المتوسِّطة، وهو في الرابعة عشرة من عمره، بناءً على ضغط الأسرة، التي رأت أن طبيعته غير المسؤولة، لن تساعده على النجاح في التعليم الجامعى..
وفي مدرسته التجارية المتوسِّطة، انبهر (رفعت) بالبريطانيين، الذين كانوا يقاومون الجيوش النازية باستماتة، مما دفعه إلى التحدُّث بالإنجليزية، بلكنة بريطانية، كما تعلَّق كثيراً بأستاذه الباريسي، الذي علَّمه أن يتحدَّث الفرنسية بلكنة الفرنسيين، حتى أجاد اللغتين، وبرع في التحدُّث بهما، مما كان له أبلغ الأثر في مستقبله فيما بعد..
وفي تلك الفترة أيضاً، كان للسينما سحر كبير، في نفوس الشباب، في كافة أنحاء العالم، مما جذب انتباه (رفعت)، وغرامه، وطموحه، إلى الحد الذي جعله يحلم بالعمل في السينما ذات يوم، حتى أنه، وأثناء رحلة مدرسية إلى ستوديوهات السينما، تسلَّل إلى حجرة الفنان (بشارة واكيم)، وراح يقلِّد أدواره، حتى ضبطه الممثل الكبير متلبساً، وراق له ما يفعله، فسأله عن اسمه وأسرته، ثم نصحه بالاهتمام بدارسته أوَّلاً، والعودة بعد الانتهاء منها، للبحث عن دور في عالم السينما..
وفي ذلك اليوم، شعر (رفعت) الصبي بنشوة غامرة، وقرَّر أن يكمل دراسته، ليصبح ممثلاً..
وفي بدايات عام 1943م، تزوَّجت شقيقته (نزيهة) من الملازم أوَّل (أحمد شفيق)، وانتقلت الأم إلى (دكرنس)، واستعد (سامي) للزواج من ابنة (محرم فهيم)، رئيس نقابة المحامين - آنذاك - وأصبح من الضروري أن ينتقل (رفعت) مع شقيقه (لبيب)، الذى أصبح محاسباً في بنك (باركليز)، إلى شقة أخرى، استأجرها لهما (سامي)، بالقرب من ميدان (لاظوغلي)..
ووفقاً لمذكراته، التقى (رفعت) بالممثل (بشارة واكيم) مرة أخرى، في عام 1945م، فتذكَّره الرجل، ومنحه دوراً صغيراً في أحد أفلامه، لتتغيِّر بعدها حياته تماماً؛ فمع الزهو الذى شعر به، مع عرض الفيلم، على الرغم من صغر دوره، بدأ زملاء الدراسة يعاملونه كنجم سينمائي، وأحاطوه باهتمامهم، وأسئلتهم، وغيرتهم أيضاً، مما ضاعف من إحساسه بالثقة، وساعده على إنهاء دراسته، في صيف 1946م، ليعمل مرة أخرى، في أفلام الفنان (بشارة واكيم)، ويلتقي بأوَّل حب في حياته.. (بيتي)..
وعلى الرغم من أن مذكرات (رفعت) تحمل اسم (بيتي)، التي وصفها بأنها راقصة شابة، مراهقة وطائشة، وتكبره بعام واحد، إلا أن بعض الآراء تعتقد أن المقصود هنا هو الراقصة (كيتي)، اليهودية الشابة، التي تورَّطت فيما بعد، مع شبكة جاسوسية أخرى، وفرَّت تحت جنح الظلام من (مصر) كلها، ولم تُسمع أخبارها بعدها قط..
المهم أن (رفعت) لم يرتبط بالراقصة الشابة عاطفياً فحسب، وإنما جنسياً أيضاً، وانتقل للعيش معها، مما أثار غضب (لبيب)، وتسبَّب له في مشكلات عائلية عديدة، جعلته يتخلَّى فى النهاية عن (بيتي)، وعن العمل فى السينما، ليتقدَّم بطلب وظيفة لدى شركة بترول أجنبية، على ساحل البحر الأحمر، ويفوز بها بجدارة؛ بسبب إجادته للفرنسية والإنجليزية بطلاقة..
ولقد نجح (رفعت) فى عمله إلى حد كبير، وبالذات لأنه يعمل في (رأس غارب)، على مسافة تقرب من مائتي كيلو متر، بعيداً عن (القاهرة)، التي فر من مشاكله العديدة بها، ورفض بإصرار العودة إليها، عندما تم نقله إلى الفرع الرئيسي بها، كنوع من الترقية..
ورفض (رفعت) الترقية، ورفض الوظيفة كلها، وتحيَّن فرصة لقائه برجل أعمال سكندري، ربطته به علاقة وثيقة أثناء عمله، ليطلب منه العمل لديه، ولينتقل بعدها بالفعل إلى (الإسكندرية)..
وارتبط (رفعت) برجل الأعمال السكندري هذا ارتباطاً وثيقاً، وشعر في منزله بدفء الأسرة، الذي افتقده طويلاً، بل وخفق قلبه هناك بحب (هدى)، ابنة رجل الأعمال، الذي لم يعترض على نمو هذه العلاقة، بعد أن اعتبر أن (رفعت) بمثابة ابنه، الذي لم ينجبه أبداً..
وكان من الممكن أن ينمو هذا الحب، ويزدهر، وينتهي بزواج، واستقرار، وأسرة بسيطة وسعيدة، و…
ولكن القدر كان يدخر مفاجأة كبيرة لبطلنا، هي بالضبط ما رأيناه وتابعناه جميعاً، على شاشة التليفزيون، في المسلسل الشهير..
مهمة متابعة، لفرع الشركة في (القاهرة)، تحوَّلت إلى عملية احتيال، من مدير الفرع الخبيث، وانتهت باتهام (رفعت) بالاختلاس والسرقة..
وعلى الرغم من أن رجل الأعمال السكندري كان يدرك أن (رفعت) قد سقط في فخ محكم، إلا أنه اضطر لفصله من وظيفته، تجنباً لإجراء أية تحقيقات رسمية، في نفس الوقت الذي أوصى فيه بتعيينه كمساعد ضابط حسابات، على متن سفينة الشحن (حورس)..
وأثناء عمله على السفينة، وتوقفها فى (ليفربول) البريطانية، التقى (رفعت) بالفاتنة (جودي موريس)، التى ذكَّرته بحبيبته السابقة (بيتي)، مما دفعه إلى الارتباط بها، ودفعها إلى التعلُّق به، حتى أنها حرضته على التظاهر بالإصابة بالتهاب الزائدة الدودية، حتى لا يرحل مع السفينة (حورس)، عندما يحين موعد مغادرتها لميناء (ليفربول)..
وقضى (رفعت) بعض الوقت مع (جودي) بالفعل، بعد رحيل (حورس)، ولكنه لم يلبث أن سئم الأمر كله كعادته، فاستعاد عمله على سفينة الشحن، عند عودتها إلى (ليفربول)، وعاد إلى (مصر)، في مارس 1950، إلا أنه لم يلبث أن عمل على متن سفينة شحن فرنسية، سافر معها إلى (مرسيليا)، ثم هجرها إلى (باريس)، حيث أجاد اللغة الفرنسية إجادة تامة، واستثمرها فى إقامة بعض العلاقات النسائية هناك، والتي كان يرغب في استمرارها إلى الأبد، لولا أنه واجه خطر الطرد من البلاد؛ لأنه لم يكن يحمل تأشيرة إقامة رسمية..
ومرة أخرى، وبتأشيرة زيارة قصيرة، سافر (رفعت) إلى (بريطانيا)، بحجة استشارة الطبيب، الذي أجرى له عملية الزائدة، واستقر ليعمل هناك في وكالة للسفريات، تحمل اسم (سلتيك تورز)..
وفي هذه المرة أيضاً، ومع النجاح الذي حققه في عمله، كان من الممكن أن يستقر (رفعت) في (لندن)، وأن يحصل على إقامة رسمية بها، بل وأن يصبح من كبار خبراء السياحة فيها، لولا أنه، وأثناء قيامه بعقد صفقة لحساب الشركة في (نيويورك)، تلقَّى عرضاً من صاحب شركة أمريكية، بدا له مناسباً للغاية، فقبله على الفور، ودون تفكير، وقرَّر الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الوقت، دون تأشيرة عمل رسمية، أو بطاقة ضمان اجتماعي خضراء..
ولعل هذا أسوأ قرار اتخذه (رفعت الجمَّال) في حياته، أو أن القدر كان يدخر له بالفعل ذلك الدور، االذي صنع منه حالة فريدة في عالم الجاسوسية، ويدفعه إليه دفعاً بلا هوادة..
فمنذ اتخذ قراره هذا، اضطربت حياة (رفعت) تماماً..
إدارة الهجرة بدأت تطارده، وصاحب العمل تخلّى عنه، وتم وضع اسمه فى القائمة السوداء في (أمريكا)، مما اضطره للهرب إلى (كندا)، ومنها إلى (فرانكفورت) في (ألمانيا)، التي حصل على تأشيرة ترانزيت بها، باعتبارها مجرَّد محطة، للوصول إلى (النمسا)..
ولكن عبثه أيضاً صنع له مشكلة ضخمة في (فرانكفورت)، حيث قضى ليلة واحدة، مع فاتنة شقراء، استيقظ ليجد نفسه بعدها دون نقود، ودون جواز سفر أيضاً..
ففي تلك الفترة بالذات، كان الكثيرون من النازيين السابقين، يسعون للفرار من (ألمانيا)، ويشترون، في سبيل هذا، جوازات سفر أجنبية..
ولقد اتهمه القنصل المصري هناك بأنه قد باع جواز سفره، ورفض أن يمنحه وثيقة سفر بدلاً منه، ثم لم تلبث الشرطة الألمانية أن ألقت القبض عليه، وتم سجنه لبعض الوقت، قبل أن يرحل قسراً، على متن أوَّل طائرة، عائداً إلى البلد الذي جاهد للابتعاد عنه..
إلى (مصر)..
الفصل الثانى :
مع عودة (رفعت) إلى (مصر)، بدون وظيفة، أو جواز سفر، وقد سبقه تقرير عما حدث له في (فرانكفورت)،
وشكوك حول ما فعله بجواز سفره، بدت الصورة أمامه قاتمة إلى حد محبط، مما دفعه إلى حالة مؤسفة من اليأس والإحباط، لم تنته إلا مع ظهور فرصة جديدة، للعمل في شركة قناة (السويس)، تتناسب مع إتقانه للغات..
ولكن الفرصة الجديدة كانت تحتاج إلى وثائق، وأوراق، وهوية..
وهنا، بدأ (رفعت) يقتحم العالم السفلي، وتعرَّف على مزوِّر بارع، منحه جواز سفر باسم (علي مصطفى)، يحوي صورته، بدلاً من صورة صاحبه الأصلي.. وبهذا الاسم الجديد، عمل (رفعت) في شركة قناة (السويس)، وبدا له وكأن حالة الاستقرار قد بدأت..
ولكن هيهات… لقد قامت ثورة يوليو1952م، وشعر البريطانيون بالقلق، بشأن المرحلة القادمة، وأدركوا أن المصريين يتعاطفون مع النظام الجديد، فشرعوا في مراجعة أوراقهم، ووثائق هوياتهم، مما استشعر معه (رفعت) الخطر، فقرَّر ترك العمل، في شركة قناة (السويس)، وحصل من ذلك المزوِّر على جواز سفر جديد، لصحفي سويسري، يُدعى (تشارلز دينون)..
والمدهش أن (رفعت) قد قضى بعض الوقت، في أحد الفنادق الدولية الكبرى، منتحلاً شخصية (دينون)، دون أن ينكشف أمره لحظة واحدة، أو يُدرك مخلوق واحد، ممن يتعامل معهم يومياً، أنه ليس صحفياً، بل وليس حتى سويسرياً، بل مجرَّد شاب مصري، يحمل شيكات سياحية، قيمتها اثنا عشر ألف دولار أمريكي، هى نتاج عمله في شركة (سلتيك تورز) البريطانية، مما يثبت مدى براعته، وقدرته المدهشة على إقناع وخداع كل من حوله، وتمكُّنه المدهش من اللغات ولكناتها أيضاً..
وبسبب بعض المتغيرات السياسية، في عام1953م، بدأت عملية مراجعة لأوراق الأجانب في (مصر)، مما اضطر (رفعت) إلى إنهاء إقامته في ذلك الفندق الدولي، الذى لم يُسدِّد فاتورته على الأرجح؛ لأنه قرَّر أن يغيِّر هويته مرة أخرى، وحصل بالفعل على جواز سفر جديد، باسم البريطانى (دانيال كالدويل)..
وبأسلوب إيقاف السيارات (الأوتوستوب)، اتجه (رفعت) نحو حدود (ليبيا)، وقد وقر في نفسه أنه لم يعد أمامه سوى أن يغادر (مصر) كلها..
ولقد سار كل شيء على ما يرام، حتى بلغ نقطة الحدود نفسها، وقدَّم للضابط البريطاني عندها جواز سفره البريطاني، بمنتهى الثقة والبساطة، وهو يتحدَّث معه بلكنة بريطانية صرفة..
ولكن الأمور لم تكن تسير لصالحه هذه المرة..
ففي ذلك الحين، كان الكثيرون من الجنود البريطانيين يفرون من وحداتهم في (الإسكندرية)، ويحاولون عبور الحدود إلى (ليبيا)، كما كان العشرات من اليهود يسعون لتهريب أموالهم، عبر الحدود نفسها، مما جعل الضابط البريطاني يطالبه بإفراغ كل ما تحويه جيوبه أمامه، فلم يتردَّد (رفعت) لحظة واحدة، وبدا شديد الهدوء والثقة، وهو يفرغ جيوبه أمام البريطاني، الذي التقط الشيكات السياحية، وفحصها في اهتمام بالغ، قبل أن يسأله عما يعنيه كون الشيكات محرَّرة لاسم (رفعت الجمَّال)، في حين أن جواز السفر يحمل اسم (دانيال كالدويل)..
وهنا، ارتكب (رفعت) أكبر حماقة في حياته، عندما قال: إنه سيوقَّع تلك الشيكات باسم (رفعت الجمَّال)، مما اعتبره البريطاني بادرة شك، فألقى القبض عليه، وأعاده إلى (القاهرة) مع تقرير يشير إلى أنه لا يبدو مصرياً، أو حتى بريطانياً، وأنه على الأرجح (دافيد أرنسون) آخر..
و(دافيد أرنسون) هذا ضابط يهودي، كان مستشاراً للقائد التركي (جمال باشا) في (دمشق) يوماً ما، ضمن شبكة تجسُّس يهودية، انتشر أفرادها في الإمبراطورية العثمانية..
ولكن سلطات التحقيق في (مصر) لم تكن لديها خلفية تاريخية مناسبة، لتستوعب هذا الأمر، لذا فقد اتهمت (رفعت) بأنه يهودي، يحمل اسم (دافيد أرنسون)، وجواز سفر باسم (دانيال كالدويل)، وشيكات سياحية باسم (رفعت الجمَّال)، ولقد زاد هو الطين بلة -حسبما قال في مذكراته- عندما تحدَّث بالعربية، ليثبت التهمة على نفسه، مما جعلهم يرسلونه إلى (القاهرة)، وإلى (مصر الجديدة) بالتحديد؛ لأنها الجهة الوحيدة، التي عثروا فيها على اسم (رفعت الجمَّال)..
إلى هنا، والمذكرات لم تبتعد كثيراً عن تلك الأحداث، التي تابعناها جميعاً، في المسلسل الشهير، على شاشة التليفزيون، فقد أعيد استجواب (رفعت) في قسم (مصر الجديدة)، وحار الكل في شأنه، وافترض بعض الجنود، والضباط، وحتى المساجين، أنه بالفعل يهودي مصري، و…
وفجأة، زاره ذلك الرجل..
وفي هذا الجزء بالتحديد، أعتقد أنه من الأفضل أن ننقل الحدث، كما رواه (رفعت علي سليمان الجمَّال) بنفسه، باعتباره أهم وأخطر نقطة تحوّل، في مسار حياته كلها، حيث يقول:
رأيت في انتظاري رجلاً ضخم البنية، يوحى بالجدية، يرتدي ملابس مدنية، هادئ الصوت في ود حين يلقي أوامره.
وجه كلامه للحارس الذى اصطحبني قائلاً:
- يمكن أن تتركنا الآن وحدنا.
واتجه ناحيتي وطلب مني الجلوس. جلست. وفي داخلي قلق حقيقي. يسيطر عليَّ مزاج عنيد وملل وضيق مما سيأتي، فقد سئمت وضقت ذرعاً من القيود التي وضعوني فيها. وعندما قدم لى الجالس قبالتي سيجارة ثنيت يدي في هدوء فانسلتا خارج القيد الحديد. تردد الرجل لحظة، ولكنه لم ينطق بشيء، ولم يستدع الحارس. فقط جلس خلف مكتبه، الذي أجلس قبالته، وقد رسم على شفتيه ابتسامة وهو يتطلع إلىَّ.
قدّم لي نفسه قائلاً:
- اسمي حسن حسني من البوليس السياسي.
قفزت إلى رأسي علامة استفهام كبيرة: ما علاقتي أنا بالبوليس السياسي؟ إن المباحث الجنائية هي وحدها المسؤولة عن الجرائم التي يحاولون اتهامي بها.
استطرد الرجل قائلاً:
- لا أستطيع أن أخاطبك باسمك لأنني لا أعرف أي اسم أستخدم من أسمائك الثلاثة. يجب أن تعرف أن قضيتك صعبة جداً. ليس المسألة خطورة جرائمك، بل لأننا ببساطة لا نعرف من أنت. إن الثورة في بلدنا لا تزال حديثة عهد، بلا خبرة أو استعداد. ونحن لا نستطيع إصدار وثائق إثبات الشخصية للجميع لأننا لا نملك الوسائل اللازمة ولا العاملين اللازمين لذلك. وكما ترى فإنني صريح معك. وحيث إنك حتى هذه اللحظة مجرد مشتبه فيه، فالواجب يقضي بأن لا تبقى في الحجز أكثر من يومين. بعد هذا لابد من عرضك على قاض أو إطلاق سراحك. ولكن يجب أن نتحفظ عليك حتى تفصح لنا عن حقيقة هويتك. نحن في ثورة ولسنا على استعداد لتحمل أية أخطاء في هذه المرحلة.
أنصت إليه بانتباه محاولاً تصور ما يرمى إليه. واستطرد قائلاً:
- أود أن أغلق قضيتك. لا يوجد أي بلاغ عن سرقة جواز سفر بريطاني باسم (دانييل كالدويل). ولا أستطيع أن أفسر كيف ظهر في ملفك أنك يهودي باسم (ديفيد آرونسون). ثم إن (رفعت الجمَّال) لا توجد اتهامات ضده ولا أبلغ هو عن سرقة أى شيكات سياحية. سأدعك تخرج إلى حال سبيلك شريطة أن أعرف فقط من أنت على حقيقتك. والآن ما قولك؟
قلت له :
- ألا تريد أن تخبرني لماذا أنت مهتم بي؟ واضح أنني لست هنا بسبب اتهام ما.
وكان رده:
- أنا معجب بك. إجابتك أسرع مما توقعت.
تصورت أنه ما دام من البوليس السياسي، وهو ما أصدقه، فليس من المنطقي أن يعرفني باسمه مع أول اللقاء إلا إذا كان على يقين من أمري.
كان البوليس السياسي في ذلك الوقت نوعاً من المخابرات. وعلى الرغم من ادعائه أنهم لا يملكون الإمكانيات إلا أنهم كانوا يعملون بدأب شديد.
استطرد قائلاً:
- أنا مهتم بك. فقد تأكد لنا أنك قمة في الذكاء والدهاء. لقد أثرت حيرة الرسميين إزاء الصور التي ظهرت عليها حتى الآن. قد تكون إنجليزياً أو يهودياً أو مصرياً. غير أن ما أثار اهتمامي كثيراً بشأنك هو أن أحد رجالنا الذين دسسناهم بينكم في حجز الإسكندرية أفاد بأن جميع النزلاء اليهود الآخرين اعتقدوا عن يقين أنك يهودي.
دهشت للطريقة التي يعملون بها. لقد وصل بهم الأمر إلى حد وضع مخبرين داخل السجن للتجسس على الخارجين على القانون. وواصل حسن حسني حديثه قاصداً مباشرة إلى ما يرمي إليه فقال:
- يجب التزام الحذر. أعداء الثورة في كل مكان ويريدون دفع مصر مرة ثانية إلى طريق التبعية للأجانب وكبار الملاك الزراعيين. بيد أن هذا موضوع آخر. فأنت كإنجليزي لا يعنيك هذا في كثير أو قليل. وأنا على يقين من أنك لا تضمر كراهية للشعب المصري.
انفجرت فجأة قائلاً:
- هذه إهانة أنا مصري، وحريص كل الحرص على مصر وشعبها.
صحت وصرخت بأعلى صوتي لهذه الإهانة التي وجهها لي. وما أن انتهيت من ثورتي الغاضبة حتى أشعل سيجارة وابتسم ابتسامة المنتصر..
وعرفت أنني وقعت .
| |
|