الآخرة هي دار البقاء
يحسب العديد من الناس أن بإمكانهم تأسيس حياة كاملة لاينقصها شئ في هذه الدنيا، لأنهم يظنون أنهم حازوا على الثروة المادية الضرورية, فإن حياتهم في هذه الدنيا تكون كافية لإشباع جميع حاجات الإنسان وتطلعاته، وكافية لإسعاده. وحسب القناعة السائدة فإن الإنسان يكون قد أسس حياة كاملة لايشوبها أي نقص ان حصل على ثروة مادية وعلى بيت سعيد أو حاز على شهرة وصيت ذائع يجعله محترما في عيون الآخرين. . . هذا هو مايحسبونه.
بينما لا نعثر في كتاب الله تعالى على مثل هذه النظرة ولاعلى ما يؤيدها. بل على النقيض فالقرآن الكريم يقول بأن الحياة الدنيا لايمكن أن تكون كاملة ومثالية دون نقص لأنها صممت على قاعدة وعلى أساس النقص وعدم الكمال.
إن اشتقاق كلمة الدنيا يحمل إيماءة مهمة في هذا الموضوع، لأنها مشتقة في اللغة العربية من " الدناءة " وهي صفة للشيء الذي لايملك قيمة. والدنيا هي محل وضع هذه الصفة. لذا وكما مر بنا في فصول هذا الكتاب فقد كرر القرآن عدم أهمية هذه الحياة الدنيوية، وأشار إلى أن جميع أشكال الزينة الموجودة في هذه الحياة كالغنى وحياة العمل والزواج و الأولاد والنجاح لا قيمة لها وهي من المتاع الزائل:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَ الأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ( الحديد 20 ).
وفي آية أخرى:
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ الآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى
( الأعلى 16 – 17 )
والحقيقة أن المشكلة تبدأ – كما تذكر الآية أعلاه – عند إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، لأن الإنسان عندما يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة يكون قد أدار ظهره لله تعالى هو الذي يقول في كتابه:
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ
( يونس 7 )
وينذرهم بأن مصيرهم إلى النار. إن نقص الحياة الدنيا وعدم كمالها لايعني طبعا عدم وجود أشياء جميلة فيها. فقد ملأ الله تعالى الدنيا بنعم عديدية لا تذكر. ولكن بجانب أو جه الجمال هذه. فقد تم وضع أوجه قبح وأوجه نقص وقصور فيها تذكر بجهنم وبعذابها. وبسبب ما تقتضية حكمة الابتلاء والامتحان في الحياة الدنيا فقد وضعت الصفات العائدة للجنة مختلطة مع الصفات العائدة لجهنم، وهكذا يستطيع المؤمنون أخذ فكرة واضحة عن الجنة وعن جهنم من جهة، ويتوجهون نحو الآخرة وهي الدار الخالدة والكاملة البريئة عن أي نقص بدلا من التوجه للحياة الفانية القصيرة للدنيا والانخداع بها. والدار الآخرة هي الدار التي يرتضيها الله تعالى لعباده. ويشير القرآن إلى أن الدار الآخرة هي الدار الأبدية للإنسان والدار الحقيقة وهي دار القرار لهم. لذا كان من الواجب ومن الضروري بذل كل الجهد للفوز بالدار الآخرة والفوز بنعيم الجنة وهذا هو ما يأمر به الله تعالى عباده:
وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
( آل عمران 133 ).
وضع المتنافسين للفوز بالجنة
لقد بشر القرآن الكريم المؤمنين بأجر كريم وبمغفرة وبثواب وسعادة لاحد لها، ولكن هناك أمراً كثيراً ما يغيب عن البال وهو أن المؤمن يعيش هذه البشارة ضمن شريط الزمن اللانهائي الممتد إلى الجمال اللامحدود وهو لايزال في الحياة الدنيا، لأن المؤمن علاوة على أنه مبشر بالجنة في الآخرة فلم يترك محروما من ألطاف الله تعالى ونعمه في هذه الدنيا. ويذكر القرآن الكريم أن المؤمنين الصالحين سيحيون حياة طيبة في هذه الحياة الدنيا:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(النحل / 97 )
إن قيام الله تعالى بمنح عباده الصالحين ألطافا دون أي مقابل كتشويق وحث وصوراً عديدية من الإحسان والإنعام قانون لايتغير. ونظرا لكون الغنى والعظمة والجمال من أخص صفات الجنة ومن أسسها، لذا يخلق الله تعالى في هذه الدنيا لعباده المصطفين الأخيار، ولعباده الذين يحبهم ويرضى عنهم نعما تذكرهم بنعم الجنة وتشير إليها ليزيد من شوقهم إلى الجنة. لذا فكما يبدأ العذاب اللانهائي للمنكرين والملحدين في هذه الحياة الدنيا كذلك يبدأ الجمال اللانهائي في الموعود للمؤمنين والصالحين في حياتهم الدنيوية. وقد يبتلي الله المؤمنين في هذه الحياة بصور من الضيق والمصاعب والآلام ولكن المؤمنين الصابرين لوجه الله تعالى يتذوقون من هذه المحن والآلام لذائذ معنوية لايمكن أن تخطر على بال المنكر.
إن المؤمن يعيش في هذه الحياة الجديدة بعيدا عن أي هم أو حزن أو ضيق نفسي طوال حياته في الدنيا لأنه يعلم بأنه باتباعه أوامر ونواهي خالقه وبعيشة شكل الحياة الذي يحدده الدين الذي اختاره له سيعيش افضل حياة. وهو يحمل بعد وفاته آمالا كبيرة حول حياته الأخروية، ويتوقع أفضالا ًعديدة من ربه، فهو يعلم قبل كل شئ بأن عون ربه وتأييده له على الدوام. ومثل هذا الأمن والطمأنينة والسكينة التي يشعر بها المؤمنون ناشئة من علمهم بأن كل صلاة وعمل صالح يقومون به طالبين رضا الله تعالى يسجل في دفاتر حسناتهم من قبل الملائكة, كما يعلمون بأن الله تعالى يؤيدهم ويحفظهم بملائكة لا يرونها.
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْوَالٍ (الرعد 11)
ويعلم المؤمنون بأن النصر حليفهم في كل كفاح يدخلونه في سبيل الله, وأنهم هم الموعودون بالجنة، وهذا يعطيهم شعوراً بالثقة وبالأمل لعلمهم بأن الله تعالى قد أمر ملائكته بنصر المؤمنين وتثبيتهم.
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (الأنفال 12)
المؤمنون هم الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(فصلت 30)
وهم يعلمون مع هذا أن الله لا يكلف أحدا ً فوق طاقته:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (الأعراف 42)
ولأنهم يؤمنون بالقدر وأن الله تعالى هو فاعل كل شيء, لذا يعلمون أن كل ما يصيبهم هو من عند الله:
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (التوبة 51)
لذا يتوكلون عليه ويرضون بحكمه:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (آل عمران 173- 174)
لذا لا يصيبهم أي مكروه . ولكن بما أن الدنيا دار امتحان وابتلاء فمن الممكن أن تظهر العديد من الصعوبات أمام المؤمن كالجوع والمرض والأرق وحوادث السير والخسائر المالية....إلخ.
وقد يمتحن بالفقر والبأساء والضراء. والآية الكريمة الآتية تسجل بعض هذه الابتلاءات:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِقَرِيبٌ (البقرة 214)
ولاشك أن هذه البأساء والضراء والمصاعب التي ظهرت أمام الرسول وأمام المؤمينين معه لم تزدهم إلا عبودية لله تعالى وخشية منه ورضا ً بقضائه, وزادت أشواقهم الى الجنة. علماً بأن الله تعالى يبشرهم في نهاية الآية بأن نصر الله قريب, وفي النتيجة:
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (الزمر 61)
ولما كان المؤمن يعلم بأن المصاعب هي لامتحان إيمانه أنها وأوجدت لهذا الغرض فإن أظهر صبراً وتوكلاً فسينال ثوابا ً كبيرا ً في الآخرة, وستكون عاملا ً لنضوجه وفرصة لكماله, لذا فلا يفقد شيئاً من أمنه وطمأنينته وسكينة نفسه. ولا تستطيع هذه المصاعب النيل من سكينة نفسه بل سيزداد شوقه وحماسته.
بينما يكون الوضع على النقيض بالنسبة إلى الكافر الذي يتعذب لا جسدياً فقط بل نفسياً وروحياً.
إن المشاعر السلبية كالخوف والحزن والأسى والقلق والتشاؤم من المشاعر الرئيسية الملازمة و اللصيقة بمشاعر الملحد والمنكر. وهذه المشاعر السلبية تعد بداية مصغرة للجانب المعنوي من العذاب الذي سيتجرعونه في جهنم ويشبه الله تعالى هؤلاء الضالين والمنحرفين كما يأتي:
فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ( الأنعام / 125 )
ومقابل هذا يخبرنا الله تعالى في آيات أخرى كيف أنه يحسن لعباده المؤمنين الصالحين الذين يستغفرونه ويتوبون إليه ويؤتهم من فضله في هذه الحياة الدنيا :
وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إليه يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( هود / 3 )
وآية أخرى يعرف القرآن الكريم الحياة الدنيوية للمؤمن:
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ( النحل / 30 )
إن الدار الآخرة خير من دار الدنيا هذه وأفضل، وعندما يتم قياس صور الجمال الموجودة في هذه الدنيا بالموجود في الآخرة نرى أنها تتضاءل حتى تفقد كل قيمتها. لذا فإذا تعين علينا تعيين هدف لنا، لكان من الضروري أن تكون الدار الآخرة هي الهدف. والمؤمنون الذين يسعون الدار الآخرة يغمرهم الله تعالى بأفضاله في حياتهم الدنيا هذه.
الجنة : الوطن الحقيقي للمؤمنين
لقد وعد الله الجنة لعباده المؤمنين. ووعد الله حق لاريب فيه أبداً. والذين يؤمنون بأن هذا الوعد سيتحقق حتما، لايحملون في جوانحهم أي شبهة أو قلق أو ريبة. وعندما يسلمون أرواحهم كمؤمنين يعلمون بأن ذنوبهم ستغفر لهم وبأن أبواب الجنة ستفتح لهم وسيدخلونها
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ( مريم /61 )
وأخيرا تقبل تلك اللحظة المرتقبة، وتكون الجنة – التي هي الدار الحقيقة للمؤمن ودار القرار له التي تمناها المؤمن طوال حياته وعمل كل ما في جهده للفوز بها ونيلها - قد تهيأت للمؤمنين. والقرآن الكريم يرسم صورة رائعة لدخول المؤمنين الجنة.
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى ( الرعد 23 -24 )
صور الجمال في الجنة
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ( الرعد 35 )
قبل الولوج في الموضوع هناك نقطة مهمة يجب بيانها: إن الفكرة الشائعة من أن الجنة تحتوي فقط على مناظر طبيعية جميلة وعلى بساتين وأنهار جارية. . . هذه الفكرة ليست فكرة قرآنية. لاشك أن جمال الطبيعة والبساتين والأشجار والأنهار تكمل الجو الساحر للجنة. وهذه هي الحكمة من وجود القصور في الضلال والبساتين التي تجري من تحتها العيون والأنهار. ولكن هذه البساتين والمساحات الخضراء لا تكفي لتعريف الجنة تعريفا شاملا وكافيا.
إن صور الجمال في الجنة ونعمها خارج نطاق كل التصورات وخيالات الإنسان وخارج قدرة الإنسان في التعبير عنها فقسم منها تذكر بما كان موجودا في الدنيا وقسم منها جديد كل الجدة ولم يعرفه الإنسان من قبل:
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( الرحمن / 48 )
ويجب أن يكون معلوما لدينا بأن صورا عديدة من الجمال ومن المفاجات أعدها الله تعالى بعلمه اللانهائي للمؤمنين في الجنة وجعلها في انتظارهم، وفي الآية الآتية يخبرنا الله تعالى بأن كل شيء سيتحقق حسب مشيئة المؤمن وإرادته وطلبه للجنة.
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ( الشورى / 22 )
أي أن قوة خيال الإنسان ستؤدي بإذن الله ولطف منه إلى تشكيل صور جمال عديدة في الجنة علاوة على صور الجمال الموصوفة في القرآن الكريم.
الجو الذي سيعيش فيه المؤمنون في الجنة
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( التوبة 72 )
البيوت التي عاش فيها المؤمنون في الحياة الدنيا هي بيوت طاهرة.
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ( النور 36 )
وستكون بيوت الجنة مشابهة لهذه البيوت يذكر فيها المؤمنون الله سبحانه وتعالى ويشكرونه على أفضاله ونعمه. فكما أن المساكن الجميلة الطاهرة التي يعيش فيها المؤمنون من قصور ومنازل يمكن أن تكون ضمن جو الجمال الذي ذكرناه في السابق، كذلك يمكن أن تكون ضمن مدن حديثة جدا ذات هندسة معمارية راقية، وتملك لمسات جمالية عديدة.
المساكن المذكورة في القرآن مقامة ضمن أجواء من الجمال الطبيعي، فمثلا تذكر إحدى الآيات القرآنية:
لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ( الزمر 20 )
قد يكون لهذه المساكن العالية المذكورة في هذه الآية نوافذ واسعة للإشراف على هذه المناظر، فيها صالونات واسعة تحيط بها النوافذ من جهاتها الأربع. وهكذا يتمتع المؤمن بمساكن موثثة بأجمل ديكور يتمناه الإنسان، وعندما يسترخي على كراسي ناعمة ويرزق بأطيب الفواكه والأشربة يتطلع من مكانه العالي على أجمل المناظر التي تخلب الألباب.
يكون تصميم هذه القصور وتأثيثها بأفضل الأثاث وأجوده وبألوان متناغمة، فيها كراسي مريحة وأسرة متقابلة يذكرها القرآن الكريم في عدة آيات:
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ( الواقعة 15 – 16 )
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهم بِحُورٍ عِينٍ( الطور 20 )
وكما يتبين من هذه الآيات فالسرر هنا رمز للغنى والعظمة والقدرة. والله تعالى رأى المؤمنين مستحقين لمثل هذه النعم في الجنة. والمؤمنون - وهم متكئون على هذه السرر – يذكرون الله ويشكرونه ويحمدونه:
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( فاطر33 –35)
والشئ الغالب في مواد الجنة أنواع عديدة من عناصر الأناقة وصور الجمال التي هي انعكاس للفن وللعلم اللا محدود لله تعالى, مثلا ً فالأسرة المحلاة بالجواهر موضوعة في أماكن عالية ومرتبة ومؤثثة بعناية، والملابس من الحرير ومن الاطلس مزينة بقلائد من الفضة والذهب. ومع ورود تفاصيل عديدة فالله تعالى استعمل في وصف الجنة عبارات تترك مجالاً للخيال أيضاً. وبإمكان المؤمن أن يختار ما يعجبه من أنواع الزينة والأثاث. ولاشك أن الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين الذين استحقوا الفوز بالجنة مفاجآت عديدة لا يمكن أن تخطر على بال أحد ولا على خياله.
الجنة تفوق جميع الخيالات
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
( الزخرف 71 )
إن الشروح الواردة في القرآن حول الجنة وتصويرها وتقديم الأمثال عنها تنطلق من كونها ليست غريبة تماما عن الموجود في الدنيا بل تحمل بصمات من الشبه بها لذا يقول الله تعالى:
وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ( محمد 6 )
لذا نستطيع بإذن الله معرفة الحياة في الجنة ونحن لا نزال في الحياة الدنيا، وأن نملك حولها المعلومات، وهذه المعلومات هي المعلومات التي علمها الله لنا لكي تكون وسيلة للتفكر في الجنة والشوق إليها. ولكن لا يمكننا القول بأن هذه المعلومات تصف الجنة تماما ومن جميع جوانبها وأوجه النعم فيها، ففي بعض الآيات تمت الإشارة إلى نقطة مهمة وهي أن أوصاف الجنة هذه هي لتحريك قوة الخيال عندنا. وقبل تقديم هذه الآيات علينا أن نذكر أمرا مهما وهي أن آيات مثل:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ( محمد / 15 )
فهذه الآية تشير إلى أن الجنة مكان يفوق الخيال الإنساني، وإلى أنها دار المفاجآت التي لا تخطر على قلب أحد. والآية الآتية تصور الجنة كمكان ضيافة واحتفال:
لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ( آل عمران 198 )
ولاشك أن الفوز في امتحان الحياة الدنيا والوصول إلى دار المقامة حسب تعريف القرآن للجنة أي إلى الموطن الحقيقي والباقي للمؤمن أمر يستحق الاحتفال به. ولاشك أن مثل هذا الاحتفال سيكون من العظمة ومن الأبهة بحيث لا يمكن قياسه بأي احتفال لأي قوم في الدنيا منذ خلقها وحتى فنائها.
وهذه الاحتفالات في الحياة الأبدية، والتمتع بأنواع لاتعد ولاتحصى من النعم والمسرات سمة خاصة بالجنة التي لا يصاب فيها المؤمن بأي نوع من أنواع التعب أو الملل أو النصب، لذا نرى المؤمنين يقولون وهم يحمدون الله تعالى:
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ( فاطر 35)
ولاشك أن التعب الذهني أو النفسي أو المعنوي يندرج في هذه الآية.
الإنسان في ظروف الحياة الدنيا يتعب بسرعة لأنه خلق ضعيفاً. وعندما يتعب يتكدر ذهنه ويضعف عنده التركيز، ويضعف عنده التفكير السليم. بينما لايوجد هذا الأمر في الجنة، فذهن المؤمن يكون هناك صافياً وشعوره حاداً على الدوام لكي يستطيع إدراك نعم خالقه تمام الإدراك ودون أي نقص. ونظراً لانتفاء الشعور بالتعب في الجنة، هذا التعب الذي يعد من نقائص الحياة الدنيا يكون بإمكان المؤمن هناك الاستفادة القصوى ودون أي حدود من النعم اللانهائية الموجودة في الجنة. ويكون الشعور باللذة هناك دون أي انقطاع، بل يكون هناك انتقال من نعمة إلى أخرى، ومن لذة لأخرى. وقد تم التعهد من قبل الله تعالى على عدم حدوث أي ملل أو سأم هناك.
والله تعالى يسبغ على المؤمنين في الجنة نعمه في جو يخلو من التعب ومن النصب ومن السأم ومن الضجر، فيخلق لهم كل ما يشتهونه:
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ( ق / 35 )
أي أن الله تعالى يهب لهم حتى ما لا يخطر على بالهم ولا يبلغه خيالهم، فيحصل المؤمنون هناك على أضعاف وأضعاف ما كانوا يتمنونه.
ويجب ألا ينسى أحد بأن أهم نعمة في الجنة – التي هي دار المقامة – هو الصيانة والحفظ من نار جهنم. ( أنظر سورة الدخان / 56 ) فلا يسمعون حسيسها ( سورة الأنبياء / 102 ) ولكنهم يستطيعون مشاهدة أهل جهنم والتحدث معهم أن شاؤا وهذا الأمر يكون وسيلة لحمد وشكر عظيمين.
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ( الطور 26 – 28 )
الجنة مكان في الذروة من العظمة والفخامة حتى إن القرآن يقول عنها:
وَ إذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا( الإنسان 20 )
ولا يوجد في الجنة مكان يمكن أن تقع عليه العين ولا يثير الإحساس بالجمال وبالنشوة، ففي كل شبر في الجنة ترى نعما منعكسة عن العلم اللانهائي لله تعالى، وهي نعم مهداة من الرحمة الإلهية وخاصة للمؤمنين في الجنة:
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ( الحجر 47 )
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا( الكهف 108 )
أعظم نعمة في الجنة وافضلها : رضوان الله تعالى
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( التوبة 72 )
أشرنا في الصفحات السابقة إلى نعم الجنة التي تبهر الأبصار، وكانت النتيجة التي خلصنا إليها أن الله تعالى أفاض على المؤمنين في الجنة أنواعا ًعديدة من النعم تخاطب حواسه الخمسة.
ولكن هناك نعمة تفوق كل النعم وتفضلها وهي: رضوان الله تعالى. وهي السعادة العظمى التي يشعر بها المؤمن في الجنة عندما يعلم أنه نال رضوان الله تعالى، وهي سعادة ما بعدها سعادة. وهذه السعادة نابعة من إحساس المؤمن بأنه في موضع شكر لكل نعمة يهبها له الله تعالى. وعندما يصف القرآن الكريم أهل الجنة يقول:
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبدا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( المائدة 119 )
والحقيقة أن رضوان الله تعالى هو الذي يهب القيمة للنعم الأخرى للجنة. لأن هذه النعم يمكن أن توجد في الدنيا وإن كانت بمقياس أقل كثيراً. ولكن إن لم تكن ضمن رضوان الله تعالى فلا تحمل أي أهمية بالنسبة للمؤمن.
هذه النقطة الأخيرة مهمة جدا ويجب التفكير فيها جيدا، والقاعدة الأساسية هي:
إن الذي يجعل النعمة شيئا ذا بال ليس ما تحمله من لذة، بل هو شيء وراء هذا بكثير. القيمة الحقيقة تكمن في ان تلك النعمة " هبة " من قبل الله تعالى. والمؤمن الذي يستعمل تلك النعمة ويحمد ويشكر الله يعلم أنه مخاطب من قبل الله وأنه تعالى يحبه ويحفظه ويصونه، ويذيقه من رحمته، وهذا هو سر اللذة الأصلية والحقيقية للمؤمن.
لذا فقلب الإنسان لا يشبع تماما الا بالجنة. فقد خلق الإنسان لكي يعبد الله تعالى ، لذا فلا يتلذذ الا بهباته وأفضاله. وهو لا يجد الأمن والطمأنينة إلا في الأجواء التي تذكره بالجنة، أي أن الأجواء التي تستعمل فيها هذه الأفضال والهبات في شكر الله تعالى والإحساس بكرمه. أما أمنية " المدينة الفاضلة " في الدنيا والتي جالت في أذهان المنكرين فهي مستحيلة لهذا السبب. فلو قمت بجمع كل صور الجمال المادية الموجودة في الجنة فلا تساوي شيئا إن لم يكن هناك رضوان الله تعالى. لأن الله قد يمحق كل تلك النعم وكل صور الجمال تلك وكل اللذات المصاحبة لها.
والخلاصة أن الجنة نعمة وفضل وكرم من الله تعالى ولهذا السبب فلها قيمة كبيرة. وكما ورد في سورة(الأنبياء 26) فلكون الجنة هي مكافأة لأهلها فإنهم سيعيشون بسعادةٍ وفرح ٍ أبدي.وأن أحكم ما يمكن قوله هنا هو ما ورد في القرآن الكريم : تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( الرحمن 78)
جهنم هي ماوى الكافرين
إن جهنم هي المكان الخاص الذي خلقه الله ليكون مثوى أبدياً للكافرين لكي يذوقوا فيها العذاب بدنياً وروحياً. ولأن الكفار هنا مذنبون, فإن العدالة الإلهية تقتضي أن يعاقب كل شخص اقترف ذنبا. إن من أكبر الذنوب وأقبحها في هذا الكون على الإطلاق هو قيام الإنسان بالعصيان والجحود بحق الله تعالى الذي خلقه ومنحه الحياة. ولكون هذا الذنب المقترف بحق رب العالمين يعتبر ذنبا كبيرا فإن ذلك يقتضي بالمقابل جزاءً كبيرا ً. لهذا فإن جهنم قد وجدت لتحقيق هذه العدالة والاقتصاص من المذنب. لقد خلق الله تعالى الإنسان لكي يقوم بحقوق العبودية الحقة تجاه رب العالمين. لذا فإنه سوف يواجه عواقب إنكاره. والله تعالى يقول في إحدى آياته:
وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( غافر 60 )
فما دام أكثر البشر سوف يدخلون جهنم وليس هناك أي ضمان أكيد حول خروجهم من جهنم، لذا فيجب أن يحتل هذا الموضوع لدى الناس كلهم الأولوية الكبرى. ولاشك أن أكبر تهديد يواجهنا هو جهنم, وليس هناك شيء أهم من محاولة حماية أنفسنا منها, وليس هناك عمل أهم على وجه الأرض من العمل على تفادي الوقوع في نار جهنم. وأمام هذه الحقيقة الواضحة نرى غالبية البشر وكأنهم سكارى, فهم يشغلون أنفسهم بمشاكل أخرى, وينشغلون حيث يعملون أشهر وسنين من أجل تحقيق تلك الغايات الفانية ويتناسون أكبر خطر يهددهم ألا وهو عذاب جهنم.
فهم عمي لدرجة أنهم لا ينتبهون للنار التي هي قرب رؤوسهم. والقرآن الكريم يتناول حال هؤلاء الغارقين حتى أذقانهم في الضلالة فيقول:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُون مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ( الأنبياء 1 – 3 )
إن الإنسان ينغمس غالبا في رغباته وأهوائه، ويستهلك عمره كله في أشياء تافهة. فمنهم من يجري خلف مناصب عالية, ومنهم من يحاول أن يؤسس عائلة سعيدة, وغيره يدافع عن أيديولوجيات فارغة, والبعض يصرف جلٌ وقته في كسب المزيد من الأموال. وهكذا يحاولون أن يجعلوا هدفهم في الحياة تحقيق هذه الأشياء, ولا يقدرون حجم الخطورة الماثلة أمامهم. بل يرى معظمهم أن جهنم تصور لمكان وهمي. لكن جهنم هي أكثر حقيقة من هذه الدنيا التي يرتبطون بها بكل هذه الشدة. فجهنم ستظل إلى الأبد, بينما الدنيا زائلة. فالله تعالى خالق جهنم ويوم الآخرة هو خالق السماوات والأرض والبشر حسب موازين في غاية الدقة، يكشف عظمة الله تعالى وقدرته, وأن جهنم قد أعدت لتكون مأوى الكافرين والمشركين والمنافقين. وهذا المكان المخيف الذي لا يكاد يستوعبه العقل يمثل مصدراً مرعباً للعذاب ومصدراً مخيفًا للآلام يعادل أضعاف أضعاف أكبر الآلام الموجودة في الدنيا. وقد خلقت لكي تتناسب مع عظمة وجلال الله تعالى. وهناك حقيقة ثانية تصدم الإنسان ألا وهي استمرار العذاب لجميع الذين يدخلون نار جهنم إلى ما لا نهاية. هناك قول شائع ينتشر بين أفراد مجتمع الجاهلية مفاده إن الذين سيدخلون جهنم سيعذبون إلى أجل مسمى، وبعدها يتم العفو عنهم ويخرجون منها. وهذا الاعتقاد ينتشر بالأخص بين من يعتبرون أنفسهم مسلمين، ولكن لا يقومون بأداء فروض العبادات بالشكل التام والصحيح. فهم يظنون أنهم سيبقون في جهنم لفترة ما ثم يتم العفو عنهم بعدها بعدما عاشوا حسب أهوائهم في الدنيا. ولكن ما سوف يلاقونه من مصير سيكون مؤلماً أضعاف أضعاف ما كانوا يتخيلونه. لأن جهنم هي المكان الذي يستمر العذاب فيه إلى ما لا نهاية. والقرآن الكريم لم يتطرق في أي آية من آياته إلى دخول أناس إلى جهنم وتعرضهم إلى عذاب قليل، ومن ثم أخذهم إلى الجنة. بل على العكس، فإن جميع الآيات القرآنية الكريمة تتطرق إلى حقيقة كون عذاب جهنم يستمر إلى ما لانهاية، وإن جهنم قد خلقت لتكون مثوى خاصا بالكافرين, ولا مجال هناك للخلاص منها. وسيستحق العذاب الأبدي أولئك الذين أظهروا لله تعالى جحوداً وعصياناً بعدما منحهم الله تعالى من النعم والخيرات الشيء الكثير. يقول تعالى :
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( سورة النحل 78 )
لن تكون هناك أي فائدة للذين يقدمون المغالطات والمقاييس الفاسدة لإلهاء أنفسهم، فالحكم قد تحقق وصدر في حق هؤلاء الذين قضوا حياتهم الدنيا في الجحود والضلال، وما أظهروه من حقد دفين وعدم مبالاة تجاه دين الله تعالى, وسيتم مخاطبة أولئك الذين كانوا يتكبرون على الله تعالى:
فَادْخُلُوا أبواب جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ( سورة النحل 29 )
وإحدى أهم الصفات المخيفة لجهنم هي عدم انقطاع عذابها أبداً. فليس هناك مجال للعودة والخروج منها بعد الدخول إليها، فهناك حقيقة واحدة هي استمرار عذاب نار جهنم إلى الأبد. ومن أهم صفات الله تعالى في الأسماء الحسنى صفة( القهار ) وتتجلى في هذه النقطة. وسيلاقي الذين سيكونون وجهاً لوجه مع هذه الحقيقة انهياراً نفسياً، لأنه لن يبق لهم أي أمل في النجاة, والقرآن الكريم يشرح لنا الوضع البائس لأصحاب النار فيقول:
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَ أهم النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ( السجدة 20 )
بيئة العذاب في جهنم
فبعد محاسبة الكفار أمام الله تعالى يستلمون كتب أعمالهم بشمالهم، وهذا يمثل لحظة سوقهم إلى جهنم التي سيبقون فيها إلى الأبد، حيث لن يجد الكفار وسيلة للهرب، فلن يوفر تجمع المليارات من البشر يوم الحساب الفرصة لهؤلاء الكفار كي يهربوا ويختفوا عن الأنظار، ولا يستطيع أحد الاستفادة من هذا الأزدحام كي يختفي أو يجعل نفسه شخصا منسيا. وكل فرد من أفراد أهل النار سيرافقه سائق وشاهد من الملائكة:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيد أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيب الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( سورة ق 20 – 26 )
وهكذا فإن الكفار سيتم سحبهم على وجوههم باتجاه ذلك المكان المخيف. وكما أفاد القرآن الكريم فإن هؤلاء الكفار سيساقون زمراُ زمراً إلى جهنم, وقبل وصولهم إلى هذا المكان وهم في الطريق إلى جهنم سيصاب هؤلاء الكفار بالخوف وبالرعب الشديد وبالهلع، حيث يسمعون ومن مسافات بعيدة أصوات شهيق جهنم وهي تتلظى بالنار:.
إذا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُور تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ( سورة الملك 7 – 8 )
وكما تبين الآية الكريمة, فإن إحساس الكفار بما سيصيبهم من عذاب جهنم سيكون واضحاً حال بعثهم من الموت حيث سيدركون أي عاقبة ستكون بانتظارهم فتكون أعناقهم مطأطأة من شدة الخجل والمذلة.
فهم بعد انكسار كبريائهم سيكونون في حالة انهيار تام، حيث تكون رؤوسهم منحنية, فقد أصبحوا دون حول ولا قوة، وبلا مساعدة وبلا صديق. وهم لشدة خجلهم لا يرفعون رؤوسهم، بل يكتفون بالنظر من طرف أعينهم, وفي آية كريمة تتوضح لنا هذه الحالة:
وَتَرَاهم يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنفسهم وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ( سورة الشورى 45 )
إن جهنم مكان تنبض بالكراهية الشديدة, فهي متعطشة لتعذيب البشر ولا تشبع أبدا من التهام الكافرين :
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ( سورة ق 30 )
عندما تتلقف جهنم أحد الكفار من أهل جهنم فإنها تبقيه فيها إلى الأبد. والقرآن الكريم يصف لنا جهنم بقوله تعالى:
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَر لَا تُبْقِي وَلَا تَذَر لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ( سورة المدثر 26 – 29 )
الحياة الأبدية خلف الأبواب المغلقة
سيجابه الكفار الذين سيدخلون جهنم بعد غلق الأبواب عليهم منظراً مخيفاً للغاية. فهم سيدركون أنهم بعد قليل سوف يتم رميهم في نار جهنم إلى الأبد. فغلق الأبواب من خلفهم سيجعلهم يدركون أنه ليس هناك مفر ولا خروج من هذا المكان المخيف. ويخبر الله تعالى عن وضع الكفار هذا فيقول:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ
( سورة البلد / 19 – 20 )
وحسب الآيات الكريمة
( عذاب كبير )سورة آل عمران 176 ) و
( عذاب شديد )( سورة آل عمران 40 ) و
( عذاب مؤلم )( سورة آل عمران 21 )
وهكذا يبين القرآن الكريم العذاب المرعب والأليم الذي سيواجهه الكفار.
إن المقياس الذي يملكه الإنسان في الحياة الدنيا لا يستطيع فهم واستيعاب عذاب جهنم بشكل كامل.
فالإنسان الذي لا يتحمل التعرض إلى الماء الحار أو النار لثوان معدودات لا يستطيع تجسيم منظر عذاب النار في ذهنه والذي سيستمر إلى الأبد ولا حتى تخيله. لأن شدة الألم في نار جهنم لا يمكن مقارنتها بأي ألم ناتج من أي نار موجودة على الأرض, لأنه ليس هناك شبيه لعذاب الله تعالى:
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( سورة الفجر 25 – 26 )
وكما يوضح القرآن الكريم فإن في جهنم حياة بمعنى الكلمة, ولكن هذه الحياة يملؤها العذاب في كل آن ومن كل جهة, والحياة في جهنم تحوي مختلف صنوف الإهانة والخزي والمهانة والذل. وكذلك فهناك عذاب جسدي وعذاب نفسي، ولا يمكن مطلقا قياس أي عذاب واقع في الأرض مع العذاب الحاصل في جهنم. فأهل النار سيحسون بعذاب جهنم بحواسهم الخمسة. فعيونهم ستشاهد أفظع وأقذر المناظر وآذانهم ستسمع أفظع الأصوات وأكثرها رهبة من دمدمات وضجيج وصياح وتآوهات وصراخ. وستملأ أنوفهم روائح قذرة وكريهة لا يمكن تحملها, وستذوق ألسنتهم أفظع المذاقاتً وأكثرها إيلاماً. وستحترق جلودهم وجميع أجزاء أجسامهم بحيث لا ينجو من هذا الحرق حتى خلية واحدة من خلايا جسده, وسيتلوون من شدة هذا العذاب. فهم لا يموتون ولا يفنون ليتخلصوا من هذا العذاب. وهذا العذاب سيستمر إلى ما لانهاية، لأن جلودهم ستتجدد, ولن يخفف العذاب عنهم ولن ينقطع عنهم أبداً. وكما جاء في القرآن الكريم:
أولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
( سورة البقرة 175 )
وسيقال للكفار حسب التعبير القراني:
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أو لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
( سورة الطور 16 )
وهناك عذاب نفسي شديد ومؤلم بجانب العذاب الجسدي, فهم يهانون ويحقرون، فيندمون, وكلما فكروا في وضعهم اليائس وعدم وجود أي بصيص من الأمل أمامهم ستبكي قلوبهم دماً, وكلما خطر ببالهم أن وضعهم سيستمر إلى الأبد تضاعفت آلامهم إلى درجة أنه لو يعلمون بأن هذا العذاب سينتهي بعد مليون سنة أو بليار سنة أو حتى بعد مليارات من السنين فسيشكل هذا لهم مصدر أمل كبير, ولكن علمهم بأن العذاب لن ينتهي بل سيستمر إلى أبد الآبدين سيولد عندهم شعوراً شديدا بالاحباط واليأس لا يمكن مقارنتهما بأي شعور بالاحباط واليأس في هذه الدنيا. وحسب التصوير القرآني لجهنم فهي مكان قذر، تفوح بمختلف صنوف الروائح الكريهة، ضيقة يعلوها الضوضاء، مظلمة،كريهة، كل زاوية وحجرة تغلي من شدة وهول الحرارة، تحتوي على أمقت المأكولات والمشروبات. وملابس من نار يلبسونها تظل عليهم إلى الأبد، إضافة إلى مختلف صنوف العذاب. كل هذا وأكثر من هذا يشير إلى نوع المكان الأبدي الذي سيكون مأوى الكافرين والضالين من أهل النار, ويمكن تصوير بيئة جهنم من خلال مايمكن رويته في بعض الأفلام التي تصور انفجار قنبلة نووية وما تخلفها من ظلمة، وقذارة إلى أبعد ما يمكن تصورها، وسط ممقوت, وسط ملؤه الذهول. وطبعا ومما لاشك فيه أن هناك حياة تتلاءم مع هذه البيئة. فأهل جهنم يكونون في وعيهم التام حيث يسمعون، ويتكلمون، ويتناقشون، ويحاولون الهرب، يحرقون في النار، يتضرعون ويطلبون تخفيف العذاب عنهم، يعطشون، يجوعون، يحسون بالندم القاتل. لهذا فإن أهل جهنم يعيشون في بيئة قذرة ممقوته كالحيوانات. فهم يجدون فقط شجرة الزقوم كمأكل لهم وأشواك الأشجار، أما شرابهم فمن دم وصديد ومن ماء مغلي لا غير. وفي هذه الأثناء فإن النار تحيط بهم من كل جانب. حيث تبدل جلودهم المحترقة بأخرى جديدة وهكذا. حيث يستمر هذا العذاب من دون تخفيف من حدتها وشدتها. وهم علاوة على تساقط جلودهم ولحومهم المحترقة، واندفاع وخروج أعضائهم الداخلية إلى الخارج، واحتراق كامل جسدهم, وعلى الرغم من كونهم في وسط يملؤه الدم والصديد فأنه يتم ضربهم وجلدهم بسلاسل من حديد. ويتم ربطهم من أعناقهم وربط أيديهم إلى أعناقهم حيث يتم جرهم ورميهم في أماكن ضيقة من جهنم. ويمددون من قبل زبانية جهنم على أسرة من نار. حيث يقومون بتغطيتهم بأغطية من نار. فلن تكون هناك آذان صاغية لصراخهم ولجميع توسلاتهم المستمرة. فهم يطلبون أن يخفف عنهم العذاب ولو ليوم واحد ولكن العذاب والإهانة سيكون الجواب الموجه إليهم, فاليوم الواحد لهم من أيام جهنم لا يشبه بأي شكل من الأشكال يوما من أيام الدنيا.
فكل مايجري في جهنم من حوادث هي حوادث حقيقية، فهي حقيقية بل وأكثر حقيقية من حياتنا هذه والتي نعيشها في هذه الدنيا. وهذا هو أيضا مصير الذين لايعبدون الله كماينبغي بل يؤدون عبادتهم بشكل ناقص:
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فإن أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الآخرة ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ( الحج 11 )
كذلك فهذا هو مصير الذين يقترفون الآثام ويقولون بأن الله تعالى سيغفر لنا في نهاية الأمر, والذين يحسبون أنهم لن يبقوا في جهنم إلا أياما معدودات:
ذَلِكَ بأنهم قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أيام ا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
( آل عمران 24 )
والذين يتخذون الهاً غير الله, ولا يهدفون في الحياة إلا الحصول على الثروة وعلى الصيت والشهرة, والذين يغيرون دين الله حسب أهوائهم ورغباتهم, والذين يشوهون تفسير القرآن حسب مصالحهم ومنافعهم الشخصية أو الذين يرتدون من بعد إيمانهم كفاراً. والخلاصة أن جميع الكفار والمشركين والمنافقين سيملؤون جهنم. فهذا الوعد القاطع لله تعالى قد أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى:
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
( سورة السجدة 13 )
وهؤلاء البشر قد خلقوا خصيصاً لجهنم:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَ الأنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أولئك كالأنعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمْ الْغَافِلُونَ( الأعراف 179 )
ومقابل هذا، فليس هناك أحد يستطيع أن يتألم لحال أهل جهنم وأن يخلصهم من عذاب النار وحتى أن يساعدهم. والله تعالى لن يكلمهم إلى الأبد. فهم سيقاسون آلام الاهمال والنبذ والنسيان.
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (سورة الحاقة 35 )
وزبانية جهنم، وهم من الملائكة الموكلين بتطبيق أسوإ العذاب وأقساه على واردي جهنم لايملكون ذرة من الرحمة والشفقة سيذيقونهم سوء العذاب ومختلف صنوف الآلام والتعذيب و إلى ما لا نهاية. وهم على درجة عالية من الشدة وعدم الرحمة والقوة ويكونون مخيفين جدا. فهم مكلفون بأن يقتصوا من الكفار والمشركين الذين تجاسروا بكفرهم بالله رب العالمين حيث يقومون بأداء واجبهم على أتم وجه. فليس من الممكن أن يقدموا التماساً وأن يؤدوا بشكل ناقص واجب التعذيب أو أن يجعلوا الكافرين يهربون من أمام أعينهم، ولهذا فإن الإنسان يجابه خطرا حقيقياً. فالإنسان سيعاقب بهذا العقاب إذا قام بجحود وعصيان تجاه رب العالمين، وهذا يعني اقترافه أعظم الذنوب، لهذا فإن الله تعالى ينبه الإنسان كي لا يقع في مثل هذه الأخطار وأن لايقترف تلك الذنوب:
يَاأَيُّهَا الذِين آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( سورة التحريم 6 )
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ
( سورة العلق 15 – 18 )
تضرعات يائسة لا طائل من ورائها
إن أهل جهنم يعيشون حالة من الإحباط الشديد، فالعذاب المسلط عليهم يكون أبديا من جهة وأيضاً يكون أليماً جداً من جهة اخرى, فالتوسل وإصدار أصوات تنم عن ألم كبير سيكون طريقهم وأملهم الوحيد. فهم يتوسلون لكل من يرونه، يرون أهل الجنة فيطلبون منهم قليلا من الماء والطعام. يتوسلون إلى الله تعالى ويأملون رحمة منه، ولكن كل هذا لا يجدي. وحراس جهنم وهم الزبانية يكونون ضمن الذين يتوسلون بهم، أي يصل الأمر بهم بأن يتوسلوا إلى زبانية جهنم الذين يقومون بإذاقتهم مختلف صنوف العذاب والذين لا يخطر ببالهم أن يقوموا بالتوسط لدى الله تعالى لكي يخفف عن هؤلاء العذاب حيث يكون العذاب شديدا لدرجة أنهم يتوسلون كي يخفف عنهم ولو ليوم واحد فقط. ولكنهم لا يأخذون أي رد.
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍٍ (سورة غافر 50 – 49 )