المغرب وقصة الصحراء الغربية
يعتصر الألم قلبي عندما أجد كثيرًا من الشباب المسلم لا يعرف شيئًا عن قضايا مهمَّة وماسَّة تخصّ أمتنا الإسلامية، وينتج عنها آثار ضخمة هائلة، بينما تجد هؤلاء الشباب قد بذلوا جهدًا وافيًا في معرفة أمور لا ينبني عليها عمل، وقد تكون من الأمور الترفيَّة، أو أحيانًا من الأمور الحرام.
إننا نحتاج في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها أمتنا أن نلمَّ بشكل كامل بمشاكل الأمة وهمومها، وأن نبذل الجهد والوقت في معرفة تفاصيل الأزمات التي نعيشها، وأن نبحث عن الحلول المنطقية لها أو نقترحها، وأن نشارك عموم المسلمين أحزانهم وأفراحهم، وأن نعيش المعنى العميق الذي ذكره ربنا I في كتابه عندما قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
ومن هذه المشاكل التي تحتاج إلى دراسة وفقه مشكلة الصحراء الغربية، والتي صارت محلَّ نزاع بين المغرب وجبهة البوليساريو، ودخل في الصراع أطراف أخرى مثل موريتانيا والجزائر، وأدت إلى تنافر هذه الدول الإسلامية، بل وصل الأمرُ إلى الحروب المفتوحة!
وأنا في تحليلي هذا لا أتوجَّه بالحديث إلى حكّام هذه الدول وشعوبها فقط، ولكن أتوجّه به إلى عامة المسلمين الغيورين على أمتهم ووحدتها، ولا يقولَنَّ أحدُنا: وما لي وبلاد المغرب والجزائر وموريتانيا؛ فإنما نحن كالجسد الواحد كما علَّمنا حبيبنا r، ولا يقولَنَّ أحدنا: ليس في يدي شيء؛ فعسى أن يكون الفهم بداية العمل، وأن يصبح العمل الصغير كبيرًا، وإن لم تجد شيئًا فيكفيك أن تشعر بالهمِّ والألم؛ فإن هذا يدفع إلى دعاء مخلص، قد يفتح الله U لنا به السُّبل لحل أزماتنا.
مشكلة الصحراء الغربية
ومشكلة الصحراء الغربية مشكلة معقَّدة فعلاً، وذلك لأسباب كثيرة سنعرض لها بإذن الله، ومع ذلك فأنا أرى الحلّ فيها واضحًا جليًّا، ومع ذلك فالقوم يُعرضون عنه مع أنهم يعلمونه، وهذا من عجيب أحوالنا في هذا الزمن!
والمشكلة معقدة لأسباب عِدَّة، لعلَّ من أبرزها غيابَ المعلومة الصحيحة المؤكّدة التي يمكن أن نرجع إليها، ونتفق عليها، ويزيد المشكلة تعقيدًا تعددُ أطراف الصراع، وبالتالي وجهات النظر. كما أنّ القوى الاستعمارية قد حرصت قبل خروجها من العالم الإسلامي أن تترك أمورًا مبهمة تدفع إلى تصارع داخلي في الأمّة الإسلامية، وليس هذا فقط، بل قد اكتشفنا أن القوى الاستعمارية ما خرجت حقيقةً من بلادنا، إنما بقي من زعمائنا من يدين لها بالولاء، ومِن ثَمَّ فهو يوجِّه دفة الأحداث نحو ما يريده طرف قد لا نراه ظاهرًا، وفوق كل ذلك فإنَّ القوى العالمية الحديثة كأمريكا وروسيا أدخلت أنفها كذلك في هذه الأحداث، فزادتها تعقيدًا وتشابكًا.
وكما تعوّدنا، فإننا لن نستطيع أن نفهم المشكلة على حقيقتها دون أن نعود إلى جذورها، وسأحاول أن أكون مختصِرًا، وإن كان الأمر يحتاج إلى تفصيل، إضافةً إلى أننا نحتاج إلى مقالات كثيرة موازية تشرح أمورًا ذات علاقة بقصتنا؛ مثل العلاقات الجزائرية المغربية، ومثل قصة الاحتلال الأوربي لإفريقيا، ومثل تاريخ العائلة الحاكمة في المغرب، ومثل تاريخ الممالك الإسلامية في منطقة الصحراء الكبرى والسنغال وغيرها من مناطق غرب إفريقيا.
مؤتمر برلين وتقسيم إفريقيا
إننا سنبدأ قصتنا من أخريات القرن التاسع عشر، وتحديدًا في سنة 1884م عندما عقدت الدول الاستعمارية الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، مؤتمرًا في برلين بألمانيا، وفي هذا المؤتمر قاموا بتقسيم إفريقيا بكاملها على الحضور! وهذا المؤتمر يحتاج منا إلى دراسة مفصَّلة لأهميته في فهم قصة إفريقيا، لكنّ المهم لدينا الآن أنه تم الاتفاق في هذا المؤتمر على أن تتقاسم فرنسا وإسبانيا مملكة المغرب، مع الأخذ في الاعتبار أنّ فرنسا كانت تحتل بالفعل الجزائر بدءًا من عام 1830م، وكذلك تونس بدءًا من عام 1881م، وقد اعترض إمبراطور ألمانيا على هذه التقسيمة؛ لأنه يطمع في طنجة المغربية، فقامت فرنسا بترضيته عن طريق إعطائه الكونغو بدلاً من طنجة!!
إنهم يقسِّمون البلاد كما يقسِّم أيُّ مجموعة من اللصوص أموالاً سرقوها، والأغرب أن هذا التقسيم كان قبل السرقة الفعلية، ولقد تمت معظم توصيات مؤتمر برلين بشكل مذهل، ودفعت إفريقيا الثمن باهظًا، وما زالت تدفعه إلى الآن.
وما يهمنا في هذا المقال ما حدث لمملكة المغرب فهي موضوعنا الآن..
كانت مملكة المغرب آنذاك مملكة كبيرة تمتد من البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى السنغال جنوبًا، وهي بذلك تشمل في داخل أراضيها مملكة المغرب الحالية، وأرض الصحراء الغربية المتنازَع عليها، وكذلك دولة موريتانيا بكاملها، ولكن واقع الأمر أن السلطان المغربي لم يكن له هيمنة حقيقية على المناطق الصحراوية الجنوبية (الصحراء الغربية وموريتانيا)؛ حيث هي مناطق وعرة للغاية، وتعيش فيها القبائل الحياةَ الرعويَّة، وتطبَّق فيها نظام القبائل لا نظام المدن والدول، وهذا ما دفع إسبانيا أن تطلق كلمتها المشهورة: "إن الصحراء الغربية أرض بلا مالك". ومن هنا فإن هذه الأرض وإن كانت داخل حدود المملكة المغربية آنذاك إلا أن هذا لم يكن يعني التزامًا معينًا من السلطان المغربي ناحية هذه الأراضي، خاصةً أن الحكم الملكي في هذا الوقت كان في غاية الضعف، وهذا يجرُّنا إلى الحديث عن نظام الحكم آنذاك.
الحكم المغربي
لقد حُكمت المغرب منذ سنة 1631م/ 41 10هـ - وما زالت إلى الآن - بالأسرة العلويَّة الغلالية، وهم أبناء علي الغلال، وهو من نسل الحسن بن علي بن أبي طالب t؛ ولذلك يُعرفون بالأشراف، وكانت المغرب في وقت مؤتمر برلين الاستعماري (1884م) تحت حكم السلطان الحسن الأول بن محمد (1874- 1894م)، وفي عهده ازداد النفوذ الأجنبي جدًّا، وكانت طنجة تُحكم بمجلس يتناوب على رئاسته الفرنسيون والأسبان، ثم ما لبثت فرنسا أن احتلت تونس سنة 1881م، إضافةً إلى الجزائر المحتلة من سنة 1830م، وبالتالي فزع السلطان المغربي لأنّه علم أن الدور عليه، وأن فرنسا لن تترك بلاده، فما كان منه إلا أن لجأ إلى بريطانيا لتحميه من فرنسا، ولكن بريطانيا وفرنسا اتفقتا معًا على أن تُطلق بريطانيا يدَ الفرنسيين في المغرب على أن تغضَّ فرنسا الطرف عن احتلال بريطانيا لمصر! وبالفعل احتلت بريطانيا مصر سنة 1882م، وأصبح الطريق مفتوحًا لفرنسا لكي تحتل المغرب، ولكن كما ذكرنا قبل ذلك فإنَّ احتلال المغرب لم يكن رغبة فرنسية فقط، إنما كان رغبة فرنسية إسبانية مشتركة، لكن أساطيل فرنسا كانت مشغولة بالعربدة في موانئ العالم المختلفة، فقد كان لها أطماع توسعية فوق التخيُّل؛ مما جعلها تؤجِّل الملف المغربي قليلاً، على عكس إسبانيا التي فقدت معظم مستعمراتها السابقة، وبالتالي كانت شغوفة جدًّا باحتلال جزء من الأراضي المغربية. ومن هنا فقد زحفت الأساطيل الإسبانية لترسو على ساحل منطقة الصحراء الغربية في وسط المغرب آنذاك، وقامت باحتلاله، وذلك في سنة 1884م، وبذلك فَصَلتْ بين شمال المغرب الواقع تحت سيطرة السلطان الحسن الأول، وبين جنوبه الذي سمِّي بعد ذلك بموريتانيا.. وهذا هو الاحتلال الذي سيبقى 91 سنة متصلة (من 1884 إلى 1975م).
أسرار الصحراء الغربية
والآن وقفة مع هذه المنطقة المحتلة..
إن هذه المنطقة كانت - وما زالت - صحراء قاحلة تبلغ مساحتها 266 ألف كم2، ومعظم سكان هذا الإقليم من قبائل عربية هاجرت قديمًا من الجزيرة العربية ومن مصر، كما أن بها بعض القبائل التي تنتمي إلى البربر، ويبلغ سكان هذا الإقليم حاليًا (في تعداد 2005م) 383 ألف نسمة؛ مما يعني أنه كان قليل العدد جدًّا وقت احتلاله (أقل من مائة ألف مواطن)، ولم يكن بهذا الإقليم أي ثروات في ذلك الوقت، ومن ثَمَّ فلم يكن هناك اهتمام مغربي به؛ مما سهَّل نزول القوات الإسبانية إلى مدينة العيون، وهي أهم مدن الإقليم، ثم احتلال الإقليم بكامله.
وعلى الرغم من قلّة عدد السكان، وضعف إمكانياتهم إلا أنهم قاوموا المحتل الإسباني قدر استطاعتهم، وخاضوا عدة معارك مع الجيش الأوربي المتطور، وذلك دون مساعدة تُذكر من الجيش المغربي!
الاحتلال الإسباني
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا: لماذا تهتم إسبانيا بهذا الإقليم الصحراوي الفقير؟! والإجابة على هذا السؤال تشمل عدة أسباب..
فأولاً: هذا الإقليم الصحراوي أخرج قبل ذلك رموزًا غيَّرت من خريطة إسبانيا في قديم الزمان؛ فمنه خرج طارق بن زياد -رحمه الله- الذي فتح بلاد الأندلس فصارت إسلامية ثمانية قرون متصلة، ومنه خرج يوسف بن تاشفين -رحمه الله- الذي انتصر على جيوش الصليبيين الأسبان في موقعة الزَّلاَّقة سنة 479هـ/ 1086م، وأسس دولة المرابطين العظيمة التي كانت تمثِّل تهديدًا مباشرًا لسلطة الأسبان في شمال الأندلس؛ فإسبانيا الآن تخشى إن قامت نهضة إسلامية في هذه المنطقة أن يصحو العملاق الإسلامي من جديد فيغيِّر خريطة إسبانيا، بل خريطة العالم.
وثانيًا: فإن إسبانيا تريد أن تضع قدمًا في المنطقة، حتى ولو كان في أفقر مناطقها، لعلَّها تتوسع قريبًا شمالاً أو جنوبًا أو شرقًا؛ فالأحلام التوسعية عند الدول الاستعمارية لا تتوقف، ولعل هذه المناطق تحوي كنوزًا من الذهب أو الحديد أو غير ذلك، وقد صدق حدس الأسبان كما سيتبيَّن لنا بعد ذلك!!
وثالثًا: كانت المنافسة محمومة بين القوى الاستعمارية المختلفة، وتستطيع الإمبراطورية أن تحقِّق مكاسب يُحسب حجمُها وقوتها، ومن ثَمَّ كانت إسبانيا تسعى للمنافسة مع فرنسا خاصة، ومع الدول الأوربية بشكل عام.
ورابعًا: تريد إسبانيا أن تطوِّق المنطقة الشمالية في المغرب من جنوبها، ثم من البحر شمالاً؛ أملاً في التمركُّز في منطقة الريف الأخضر في شمال المغرب لتحقِّق أهدافًا استراتيجية واقتصادية، وهذا ما تحقق لها بعد عدة سنوات قليلة.
وخامسًا: هذه الصحراء مواجهة لجزر الكناري المملوكة للأسبان، وبالتالي فإنَّ احتلال هذه المنطقة يوفِّر أمنًا عسكريًّا لجزر الكناري، وبالتالي لأساطيل إسبانيا وغيرها من دول أوربا.
استقرت إسبانيا نتيجة هذه الأسباب في هذه المنطقة، ولكنها لم تستطع أن تتوغل إلى عمق الصحراء لقوة المقاومة الداخلية، وكان يتزعم هذه المقاومة أحد الشيوخ الأفاضل، وهو الشيخ ماء العينين ابن الشيخ محمد فاضل القلقمي، وهو من كِرام العلماء وكِبار المجاهدين، ولقد قاوم المستعمر الإسباني بضراوة، بل أسس مدينة في عمق الصحراء اسمها مدينة السمارة، وذلك في سنة 1898م لتجميع المسلمين المجاهدين للهجوم على القوات الإسبانية، وليس هذا فقط، بل صارت مدينة السمارة مدينة علمية متميزة يطلب المسلمون فيها العلم من كل المنطقة، وكان الشيخ ماء العينين من شيوخ المالكية، وكان يقتني مكتبة من أكبر المكتبات في شمال إفريقيا، والحق أن قصته تحتاج إلى دراسة خاصة.
حاول الشيخ ماء العينين أن يستعين بالسلطان المغربي الذي أمدَّه أحيانًا ببعض السلاح، ولكنه عجز عن نصرته نصرًا حقيقيًّا؛ مما أثَّر سلبًا على المقاومة الإسلامية.
سياسة القمع الفرنسية
وكانت فرنسا في هذه الفترة مشغولة بتثبيت أقدامها في تونس، وبقمع الثورات المتتالية في الجزائر، ولكنها في نفس الوقت كانت تنظر بقلق بالغ إلى التوسع الإسباني في أرض المغرب، وهذا جعلها تدخل في مفاوضات دبلوماسية كثيرة مع إسبانيا بُغية الحد من توسعها إلا أنها اضطُّرت في سنة 1900م إلى الاعتراف لإسبانيا بملكيتها لمنطقة الصحراء المغربية.
لكن فرنسا الاستعمارية لم تقبل بهذا الوضع، ومن ثَمَّ جهزت نفسها لتحتل الجزء الجنوبي من بلاد المغرب (جنوب الصحراء الغربية المحتلة من قِبل الأسبان)، وهي المنطقة التي عُرفت بعد ذلك بموريتانيا (مورو تانيا أي أرض المسلمين في اللغة الإسبانية)، ونزلت بالفعل الأساطيل الفرنسية في أرض موريتانيا سنة 1902م لتحتلها بكاملها على الرغم من المقاومة الشعبية.
وجد الشيخ ماء العينين نفسه مضطرًّا لحرب الأسبان والفرنسيين في آنٍ واحد، فذهب لطلب النجدة من السلطان المغربي، وكان السلطان في ذلك الوقت هو السلطان عبد العزيز بن الحسن الأول، الذي تولى الأمور بعد وفاة أبيه سنة 1894م، ولقد أمدَّه في البداية ببعض القوات، إلا أنه تلقى تحذيرًا مباشرًا من فرنسا، فاضطُّر إلى وقف المساعدة! بل أكثر من ذلك لقد كوَّن في سنة 1903م مجلسًا عجيبًا لإدارة مدينة طنجة الاستراتيجية، فقد كان هذا المجلس مكونًا من ستة وعشرين عضوًا تَرك تعيين اثنين وعشرين منهم للقناصل الأجانب (الأسبان والفرنسيين)، وواحدًا يعينه الحاخام اليهودي، بينما يتولى المسلمون تعيين ثلاثة فقط!!
الثورة على السلاطين !
سبتة ومليلية
وإزاء هذا الوضع المخزي قامت ثورة شعبية في المغرب؛ فالشعب وجد الأرض تتناقص من حوله، فهذه الصحراء المغربية قد أخذها الأسبان، وهذه موريتانيا قد أخذتها فرنسا، وهذه طنجة تُدار بالقناصل الأسبان والفرنسيين، إضافةً إلى سبتة ومليلية المدينتيْن المغربيتيْن المحتلتين منذ 1415م (وسنُفرِد لسبتة ومليلية مقالاً خاصًّا إن شاء الله).
وجد الشعب المغربي هذه المأساة فثار على سلطانه، وأطلق عليه لقب "عبد الأجانب"، ووجدت فرنسا هذه فرصة للتدخُّل في شئون المغرب حمايةً للسلطان المغربي من شعبه!! وأسرعت فرنسا لكنها فوجئت بتحرك الإمبراطور الألماني إلى طنجة مهدِّدًا بحرب فرنسا إنْ دخلت بجيوشها إلى المغرب، فأعطته فرنسا جزءًا من الكاميرون كرشوة لكي لا يتدخل، وقَبِل الإمبراطور الألماني وترك فرنسا تدخل إلى المغرب، فاحتلَّتْ مدينة وَجْدة في أقصى شرق المغرب قرب الحدود الجزائرية، وكذلك مدينة الدار البيضاء على الأطلسي، وكان ذلك في عام 1906م، وفي نفس الوقت دخلت القوات الإسبانية لتحتل منطقة الريف في شمال المغرب.
وجد الشعب المغربي نفسه وحيدًا بلا نصير، فثاروا على سلطانهم الموالي للنصارى، وقاموا بخلعه في سنة 1907م، ونصَّبوا مكانه أخاه عبد الحفيظ بن الحسن الأول، وهرب عبد العزيز السلطان المخلوع إلى طنجة ليكون تحت الحماية الدولية (فرنسا وإسبانيا).
السلطان عبد الحفيظ
لم يتحسن الوضع في ظل السلطان الجديد عبد الحفيظ، بل ساء؛ حيث سعى إلى فرض ضرائب كثيرة بحُجَّة الإعداد لحملات عسكرية لإخراج فرنسا وإسبانيا من المغرب، فنَقَم عليه الشعب، وحاصره في مدينة فاس، فأرسلت فرنسا حملة عسكرية لنجدة السلطان عبد الحفيظ من شعبه، وذلك في سنة 1911م. وبالفعل جاءت فرنسا لتحتل فاس ومكناس والرباط، وعلى الرغم من المقاومة الشعبية المستميتة، وعلى الرغم من إبادة الحامية الفرنسية في فاس، إلا أن فرنسا عادت من جديد، واحتلت المدينة وأنقذت السلطان. غير أن ثورة الشعب لم تتوقف؛ مما أخاف السلطان عبد الحفيظ، فتنازل عن الحكم لأخيه يوسف بن الحسن الأول سنة 1912م، وهرب هو إلى مدينة طنجة لينعم بالحماية الدولية إلى جوار أخيه السلطان المخلوع عبد العزيز!
تسلَّم السلطان يوسف بن الحسن الأول الحكم ظاهريًّا، ولم يحرك ساكنًا لحرب الأسبان أو الفرنسيين، ودخلت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وفي أثناء هذه الحرب توسعت فرنسا في بقية أجزاء المغرب جنوبًا حتى وصلت إلى حدود الاحتلال الإسباني في منطقة الصحراء الغربية.
والذي يطالع الخريطة المغربية آنذاك يجدها في غاية العجب؛ فالمنطقة الشمالية (منطقة الريف) احتلال إسباني، ثم المنطقة التي في جنوبها (وسط المغرب) احتلال فرنسي، ثم المنطقة التي في جنوبها (الصحراء الغربية) احتلال إسباني، ثم أقصى الجنوب (موريتانيا) احتلال فرنسي!! فهو تقطيع عجيب لم يخلق مأساة في المغرب فقط، إنما خلق جوًّا من التوتر كذلك بين الدولتيْن العدوتيْن إسبانيا وفرنسا، وهذا سيكون له آثار على تاريخ المنطقة.
الأمير عبد الكريم الخطابي
عبد الكريم الخطابي وجد الشعب المغربي أن عليه أن يعتمد على نفسه في المقاومة والجهاد، ولا داعي للآمال الزائفة في السلطان يوسف، ومن ثَمَّ قامت حركة الأمير المجاهد العظيم عبد الكريم الخطابي في منطقة الريف في شمال المغرب، وهي حركة تستحق الدراسة، إلا أنه لم يلبث أن توفِّي سنة 1919م، ليخلفه ابنه القاضي المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي ألحق خسائر فادحة بالجيش الإسباني، لكنه أُسر في النهاية في سنة 1925م، ليتم نفيه إلى جزيرة رينونيون.
وفي نفس الوقت نجح الشعب المسلم في منطقة الصحراء الغربية وموريتانيا في إلحاق الجيشيْن الإسباني والفرنسي عِدَّة خسائر، ودارت عدة معارك مع الجيوش المحتلة، كان من أهمها معركة أم التونسي قرب نواكشوط سنة 1932م.
إنها قصة مؤلمة في واقع الأمر رأينا فيها الكثير من المخالفات الشرعية؛ من ولاية الضعفاء، ومن عدم إعداد القوة اللازمة، ومن الفُرقة، ومن موالاة النصارى، وغير ذلك من كوارث، وليس من فراغ أن تُحتل بلاد العالم الإسلامي؛ فنحن لا نُهزم بقوة الأعداء، ولكن بضعفنا.
تُرى ماذا حدث في قصتنا من مفاجآت؟ وما هو مصير المغرب؟ وما هو مصير الصحراء الغربية؟ وما هو مصير موريتانيا؟ وماذا اكتشفت إسبانيا في الصحراء الغربية؟ ولماذا تعقدت مشكلة الصحراء الغربية بعد تحريرها؟ وما هي طرق الخروج من الأزمة؟
أسئلة كثيرة تتصارع في أذهاننا، والإجابة عليها تكشف لنا بوضوح أبعاد الموقف الذي نعيشه الآن، وهذا ما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله.
ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
د. راغب السرجاني
__________________