موضوع: منطقة اعسمة حضارة قديمة تحتضنها الجبال الثلاثاء 28 ديسمبر 2010 - 3:56
منطقة اعسمة حضارة قديمة تحتضنها الجبال
“اعسمة” إحدى المناطق الجبلية الزراعية التابعة لإمارة رأس الخيمة نشأت فيها حضارة قديمة حسب ما أكد الباحثون لوقوعها على طريق التجارة وربطها بين عدة مناطق. لها ثلاثة دروب لتصل إليها احدها عبر طريق منطقة مسافي والثاني على طريق الطويين ودبا والثالث من منطقة الغيل، تدخل المنطقة وكأنك تتغلغل وسط الجبال فتستقبلك النخيل الفارعة الطول ذوات الجذوع النحيلة تجاور سفوح الجبال.
تدخل الوادي وعلى جانبيه تقع المساكن الشعبية وتمضى في طريقك نحو المزارع التي تقع على جانبي الطريق الضيق فهناك “الديره” أي مزارع الاهالي وعلى الجانب الآخر الحارة أي المساكن القديمة المبنية من حجر مصفوف فوق بعضه بعضاً تناثر أسقفها وبقيت أطلالا تذكر بالماضي الجميل.
عند تجمع الأهالي استفسرنا عن الأسباب التي أدت قديما إلى نشوء حضارة فيها رغم كونها منطقة جبلية بعيده عن البحار والانهار التي تعد احد العوامل الطبيعية لنشوء الحضارات أكد عبد الله الهنجري احد أهالي المنطقة ان السبب في اعتقاده هو موقع “اعسمة” الاستراتيجي والذي يربط دبي والشارقة ورأس الخيمة بالمنطقة الشرقية وسلطنة عمان حيث يعد الشارع الذي يصل إليها الوحيد سابقا الذي يصل تلك المناطق بعضها ببعض، إلا انها الان حسب رأيه عندما تغيرت الطرق واستجدت مسارات مختلفة أصبحت قرية “اعسمة” غير معروفة بالنسبة للأهالي في الدولة.
وأوضح الهنجري انها جغرافياً تقع في الجنوب الشرقي لامارة رأس الخيمة تحدها شمالا منطقة الغيل والوادي الممتد حتى امارة رأس الخيمة ويحدها من الغرب والجنوب سلسلة جبال عالية ومن الشرق منطقة مسافي وقرية الطيبة ومنطقة دبا.
سالم محمد أو “بو غنيم” (95 عاماً) احد اكبر الاهالي عمرا انطلق في حديثه عن الماضي في تذكره رحلاته السابقة إلى دبي على حماره حيث كانت الرحلة تستغرق أسبوعا كاملا ذهابا وإيابا أما ذهابه إلى رأس الخيمة فيستغرق الطريق أربعة أيام، موضحا ان بعض الطرق خلال الرحلة كانت الأمطار تغمرها بالمياه لتصبح أودية يصعب المرور من خلالها.
وأوضح سالم ان المطر يسقط بشكل مستمر خلال سبع سنوات ثم يقل سقوطه في السنوات السبع التالية إلا نادرا، أي سبع “خصب” أي تصبح الأرض خصبة لتوفر المياه وسبع سنوات فهي “محل” أي جرداء لا تنبت شجرا، كما قال الوالد سالم إنه في إحدى السنوات “سلط الله عليهم” جرادا “عاث في الأرض خرابا لمده 3 شهور ولم يترك شجرا اخضر ولا يابسا وحينما ابتعد عنهم اخضرت الأرض وعادت كما كانت سابقا.
ويضيف الوالد سالم إنه الطريق المؤدي الى رأس الخيمة يسمى “درب الحيال” أي طريق يصل الى منطقة “عرعر” والتي تشتهر بوديانها والشلالات التي تتكون فيها اثناء سقوط المطر وبعدها منطقة “زكات” ومن ثم منطقة “المورد” اي المكان الذي تتجمع فيه المياه ويشرب منها وفيها النخيل مشيرا الى ان كل واحد من الأهالي في الماضي لا يتحرك من دون بندقية لحماية نفسه من النمور او الذئاب التي كانت تعج بها المنطقة.
وحول حياتهم الماضية وكيف كانت أدويتهم يقول ان المطاوعة كانوا برتبة العلماء او الأطباء الخبراء لديهم يشفى المريض بقراءة القرآن والوسم ب “الميسم”وهو أداة رفيعة تستخدم للكي مؤكدا ان الحياة الماضية كانت جميلة بترابط المجتمع حيث ان المنازل تبنى بشكل جماعي ولا يمضي يوم واحد الا والمنزل جاهز للسكن.
وعن سبب التسمية حسب تفسيره ان المنطقة سميت “اعسمة” لان الدرب الذي يصل اليها من رأس الخيمة دائما على اليسار الى ان تصل اليها معتقدا في قرارة ذاته ان ذلك هو السبب الطبيعي لتسميها ب “اعسمة” أي عسراوية الطريق.
عبد الله سيف المزرعي “60 عاما” ذكر مناطق “اعسمة” القديمة حيث تدعى احدى مناطقها “اشقيرية” و”زكات” و”كريمه” و”الباحة” أي المنطقة الواسعة و”المسطاح” و”وادي الحيال” ومعظم تلك المناطق مهجورة حاليا حيث نزل الاهالي في المساكن الشعبية وتركوا الحارات القديمة.
سيف محمد سليمان المزروعي (74 عاما) أشار إلى ان المزارع كانت تسقى من خلال الأفلاج فيما كانت ثمار “الهامبا” والموز والتفاح البلدي الذي قل ما نجده حاليا والسفرجل الذي يسمى “حامض حلو” حيث يجمع بمذاقه الحلاوة والحموضة و”الترنج” وهو يشبه البرتقال في الحجم ولكنه ذو طعم حامض و”المركبي” المعروف بسماكة قشرته وكبر حجمه مقارنة بالبرتقال و”شخاخ” وهو أحد الحمضيات التي تزرع في المنطقة تغطي المزارع بتلك الثمار اليانعة بجانب أشجار النخيل.
ويقول المزروعي ان “أشجار الهامبا المعمرة” لا توجد غير في منطقة اعسمة ومسافي وهي من أجود الأنواع في المنطقة والتي تمتاز بطعمها الحلو فيما لا تحتاج إلى سماد “روث البقر” والماء.
ويتذكر الاهالي أشجار التفاح البلدي حيث يقول عبد الله الهنجري انه عندما كان طفلا يتسلق الجبال ويرى مزارع المنطقة وهي محملة أشجارها بالتفاح البلدي “الاصفر اللون” ويتذكر كيف ان إحدى أشجار التفاح قطف منها الأهالي مرة واحدة حوالي 3 آلاف تفاحة.
أما عن حصون منطقة اعسمة فيقول سيف المزروعي ان فيها ثلاثة حصون تقريبا معروفة احدها يدعى “حصن الحويل” والثاني “حصن البري” والثالث “حصن الحارة” اندثرت حاليا ولم يبق منها سوى الاطلال.
زارت “الخليج” نساء المنطقة في مدرستهن الخاصه حيث يأتين الى تلك الغرفة التي تطوع بها احد الاهالي لتخصيصها لتعلم وحفظ القرآن فيما تأتي كل واحدة منهن وتتعلم القرآن او القراءة ويعدن بعدها الى أشغالهن المنزلية.
عائشة حجي (60 عاما) تسلمت دفة الحديث عن الماضي قائلة انها كانت في الماضي تسكن في منطقة “زكات” الجبلية و”سقيبة” وعاشت كذلك في منطقة “كريمه” الى ان نزلوا لترفع أسرتها من الجبل الى مساكن شعبية “اعسمة” حيث لم يحتملوا البقاء وحدهم ولم يبق احد غيرهم في الجبل بعد انشاء المساكن الشعبية فآثروا النزول اليها، مؤكدة ان عائلتها كانت من أواخر العوائل التي انتقلت الى تلك المساكن.
وأشارت عائشة الى مزارعهم التي تزرع فيها كل انواع الخضار والفواكه وتذهب النساء لمساعدة الاهالي فيما كانت تخيط وتحطب أي تجمع الحطب وتسف سعف النخيل لتصنع منه أدوات منزلية حيث تجمع بين كل الأعمال سواء كانت في المزرعة أم المنزل متذكرة كيف كانت تخيط بسرعة قبل يوم العيد حينما يتأخر زوجها في احضار القماش لتبقى بعدها ساهرة في الليل على الخياطة الى ان تنتهي.
أما عن المدارس والتعليم في المنطقة فأكدت عائشة “ام راشد” ان ابنها راشد (45 عاما) كان من بين أوائل الأجيال التي دخلت المدارس النظامية في المنطقة، حيث كانت “مدرسة مسافي” مختلطة.
وأكدت أختها عليا حجي وعمرها (44 عاما) انها دخلت المدرسة أيضا وأكملت دراستها الى الصف الرابع الابتدائي ومن ثم خرجت لتعاون أهلها في المنزل.
وقالت الحاجة فاطمة احمد علي (60 عاما) ان الأكلات الشعبية التي كانت المرأة تطبخها لا تختلف عن الحالية ولا تختلف عن المناطق الأخرى إلا ان نوعاً من الخبز المحلي يسمى عندهم “شوب” يتميز بغلظته وسماكته ويؤكل مع السمن العربي أو الدبس خصوصا في فصل الشتاء.
وقالت الريم سلطان (65 عاما) أو “ام الحزاوي”، أي القصص القديمة، ان جدتها كانت تحازيهم ليلا أي تحكي لهم قصصا مختلفة تحمل فيها العبر والحكم الكثيرة، مشيرة إلى الكثير من “الحزاوي” المسلية التي كانت تقصها عليهم جدتها ماتزال تتذكرها للآن وتحكيها لأحفادها.
وتتذكر “الريم” كيف كان عرسها الذي لم تأخذ موافقتها فيه حيث كانت كل عروس في ذاك الزمان ترضى وتوافق دون نقاش طالما كان أهلها راضين عن “المعرس” وأهله وكان المهر الذي يسمى “الحاضر” عندهم عبارة عن دراهم نقدية او حلي من الذهب و”الغائب” أي المؤخر كذلك كان عبارة عن دراهم نقدية او حلي او أي ثمن مادي يتفق عليه الطرفان.
وعند حديثها عن المهر اكدت عائشة حجي ان حاضرها أي مهرها كان عبارة عن “كواشي” أي أقراط الاذن “حلي ذات أشواك بارزة” وهي مشهورة في الخليج أما غائب عائشة فكان كما تقول شجرة “همبا” ولا تدري أين موقع تلك الشجرة او ان كانت حية أو ماتت.
وعن تحضيرات العرس تكمل “الريم”: كان الأهالي يطبخون في قدر وحيدة، حيث يطبخ اولا العيش أي الارز ويسكب على سمة من غضف أي بساط مصنوع من سعف النخيل ويغطى عليه لعدم وجود قدر كبيرة أخرى ومن ثم يطبخ فيها المرق مع اللحم وتوزع أخيرا الطبخة في صحون على المعازيم.
من مظاهر التكافل التي ماتزال تتمسك بها منطقة “اعسمة” تجمع الشباب في جمعية شباب اعسمة للزواج حيث تبنى الشباب تأسيس تلك الجمعية منذ اكثر من سبع سنوات بحيث يشارك كل شاب بدفع قسط معين من المال وكل مرة يتجمع ذلك المال عند شخص واحد يساعده على اتمام مراسم زواجه.
وأكد راشد سالم بن عبيد (31 عاما) احد الشباب المتزوجين من الجمعية ان تلك الجمعية تميز شباب “اعسمة” بتكافلهم وتعاونهم موضحا ان على مر السنوات في كل جمعية يجتمع الشباب في مكان ما ويدعم كل شاب كفيل يكون والده او أخوه او أي من أقاربه يساعده ان تعذر عليه الدفع ولم يتعذر الدفع على أحد من الشباب قط الا ان تلك العملية تحفظ الحقوق.
وذكر الدكتور عبد الله الطابور في كتابه “جلفار عبر التاريخ” عن حضارة اعسمة ان موقع “اعسمة” من المواقع الأثرية المكتشفة التي يعود تاريخها للالف الثالثة قبل الميلاد و”اعسمة” من القرى الجبلية وتقع على بعد خمسة عشر كيلومتراً الى الشمال من “مسافي” وتعتبر من المناطق الاثرية المهمة وقد عرفت اعسمة من قبل علماء الآثار من خلال المسح الاثري الذي نشرته بياتريس دي كاردي في عام 1980 واستطاع بعد ذلك الخبير الالماني الدكتور بركهارد فوغت ان يصدر كتابا اشتمل على كافة التقارير العلمية التي توصلت اليها بعثات الآثار اضافة الى استنتاجاته التي اجراها على منطقة اعسمة ويعد هذا الكتاب نتيجة بحوث ودراسات علمية مهمة عن هذه المنطقة ويقسم الدكتور بركهارد “اعسمة” القديمة الى عدد من المواقع بعضها للسكن واخرى للدفن ترجع الى عصور مختلفة في فترة ماقبل الاسلام بالتحديد خلال القرنين الثالث والثاني الميلاديين وحتى الالف الثالث قبل الميلاد، فقد كشفت التنقيبات في اساسات مبنى حجري مستطيل مازالت محفوظة بشكل جيد نسبيا يبلغ طول المبنى الموجه من الشرق الى الغرب تسعة امتار وعرضه ستة امتار ونصف المتر ويتألف من غرفتين مستطيلتين يفصلهما حائط يتوسطه باب وتبلغ سماكة الجدران مترا واحدا على الاكثر وهي مصنوعة من وجهين من حجارة الكوارتز المتبلورة والمتوافرة محليا وبحشوة من الحصى بينها والمبنى محفور في رواسب الوادي الطينية بعمق نصف متر تقريبا.
وعثر في هذا المبنى على عظام حيوانات وأصداف البحر وأدوات حجرية للمجارش وكسر فخارية متعددة وكانت الأواني الفخارية من النوع الذي يطلق عليه عادة أواني “أم النار” المنزلية والتي يعود تاريخها إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد.
ويقول الدكتور “فوغت”: يعتبر موقع “اعسمة” الذي اكتشف على ضفة الوادي موقعا فريدا من نوعه ويثير الاستغراب لاحتوائه على مجموعة غنية نسبيا من الأواني التي وجدت فوق سطح الأرض وهي ذات التشكيل المدهش وكان اغلبها أواني محلية من ام النار و19% من هذه الأواني جاءت حضارة هارابا او مرتبطة بالحضارة السندية وهي معروفة في باكستان وشمال غرب الهند.
وتمتاز الأواني الفخارية الحمراء المكتشفة في شمال “اعسمة” بتقنيتها العالية وتعتبر صفوف اعسمة المستقيمة هي أولى الصفوف المستقيمة التي تم اكتشافها في شمال شرق الجزيرة العربية وتتوافق بشكل جيد مع تقليد هندسي يمكن رؤيته حاليا في جميع انحاء الجزيرة تقريبا.
وقد أظهرت تنقيبات الصفوف المستقيمة في “اعسمة” عدداً من العناصر الانشائية المختلفة فهي تحتوي على قبر مركزي وثلاث منصات وثلاثة اضرحة تحت الارض بالاضافة الى قبر دائري متصل كانت تكملها جميعا في يوم ما منشآت ثانوية.
ومن وجهه النظر المعمارية تعتبر مقابر العصر البرونزي في “اعسمة” منشآت هجينة وفرديه جدا ولا يوجد شبيه لها في المنطقة اما الشفرات التي عثر عليها في “اعسمة” و”ام النار” فانها تظهر تشابها كبيرا مع تلك التي وجدت في افغانستان و”ايلام” وشرق الجزيرة العربية وكذلك تلك التي تعود لحضارة ما بين النهرين الاولى.
ويذكر الدكتور فوغت ان الكأس التي عثر عليها في الصف المستقيم هي اكثر المقتنيات اثارة اذ انها تعد اول كأس من نوعها كما لم يعثر عليها في شبه جزيرة عمان ويمكن أن تكون هذه الكأس جاءت من خارج الجزيرة العربية وتشير احجار الجرش وارحية اليد التي عثر عليها في احد الحقول الى ان السكان كانوا يمارسون الزراعة في أعالي الوادي وعلى الرغم مما عثر عليه من عروق النحاس في “اعسمة” الا انه لم يجزم باثبات وجود نشاطات تصنيع النحاس فيها ومن الواضح في مدافن “اعسمة” شيوع المدافن الفردية الى جانب الجماعية وهذا يدل على وجود طبقات او فوارق اجتماعية في مجتمع “اعسمة” القديم وربما يدل على طقوس معينة كانوا يمارسونها في ذلك الوقت.
والملاحظ ان سكان “اعسمة” كانوا على علاقة تجارية مع وادي السند ومناطق اخرى وذلك على الرغم من وقوع “اعسمة” في الداخل وصغر مجتمعها واذا كانت حضارة الألف الثالث قبل الميلاد في “اعسمة” من المنظور القياسي للزمن والتطور المجتمعي قد تعطي دلالات على حقبة مزدهرة في فتره معينة فانها تكشف وبالدقة عن حضارة قامت في ذلك المكان وارتبطت بروابط ثقافية واقتصادية بعدد من الحضارات المجاورة او قد تكون مركزا من مراكز النشاط التجاري لاحدى حضارات العهد القديم في المنطقة.