العجوزان كانا شابان عاشقان وتزوجا ولم يمنعهما عجزهما من العشق والحنان
أرى المرأة العجوز تجلس وحيدة على ذلك المقعد . وتلبس ثيابا سوداء . تطل أمامي صور أليفة في هذه الحديقة الجميلة . عجوزان يسيران بخطوات بطيئة يستندان إلى عكازيهما اللامعين ويجلسان على ذلك المقعد الخشبي يلتصقان كعاشقين صغيرين ويتعانق العكازان اللامعان . ألمحهما فأقترب منهما أراقبهما بدهشة , مسنان هرمان يمدان النظرات باتجاه الأشجار
يقدم الرجل لها زهرة ياسمين يحيطها بذراعه . يقترب فمه من أذنها لا أدري ماذا يهمس لها أراها تبتسم وتظل ساكنة . أتخيل أنها تستعيد أيام صباها , وأتخيل الرجل المسن عاشقا يعدها بأحلام مجهولة وجنات ساحرة . عجوزان يستعينان بعكازيهما وقد اعتادا أن يمشيا معاً وعندما يشعران بالكلل والتعب يرتاحان على المقعد الخشبي القديم في تلك الحديقة الصغيرة ويرتاح معهما العكازان اللامعان يتحدث وتستمع إليه يهمس في أذنها كل يوم فتختلج شفتاها بابتسامة رائعة . لعلها تستعيد ذكريات الماضي الجميلة وعندما ينتشر الظلام رويداً رويداً . تمر لحظات صمت ويغادران الحديقة . هو يمسك بيدها وباليد الأخرى يتوكأ على عكازه وهي تميل على عكازها ورفيق عمرها . أذكر عندما رأيت الرجل المسن جيداً فدعاني للجلوس معه على مقعد واحد حدثني أنه تقاعد من التدريس والتقى زوجته في المدرسة وهي تصغره بسنوات ولو عاد شاباً يعمل في المهنة نفسها , ولا اختار تلك المرأة شريكة لحياته لأنها منحته الفرح والعطاء أصغيت إليه بإعجاب كنت أود أن أسأله عن زوجته لكنه شرح لي أنها تزور ابنتها المتزوجة في بلدة بعيدة يحس بالملل وتغدو الساعات ثقيلة عندما تغيب . وتخيلت عكازه يحس بالضجر والضيق لغياب المرأة العجوز . حدثني أنها كانت صبية جميلة مرحة وابتسامتها عذبة كالنور . هو الآن وحيد . لا يعرف ماذا يفعل؟ أين صوتها الهامس؟ أين وجهها الأليف؟ وأذكر يوم أثار اهتمامي المقعد الخالي . لعلهما مسافران أو مريضان وربما ذهبا إلى مكان آخر لا أعرف سبب غيابهما ولا أعرف أين يسكنان .شعرت كأن الحديقة قد افتقدت شيئاً رائعاً . شعرت كأن المقعد ينتظر عودتهما بشوق ولهفة . تذكرت همساتهما المبعثرة خطواتهما البطيئة الهادئة . وها أنا أتنزه في الحديقة كما افعل كل يوم . وجدت المرأة العجوز تجلس على ذلك المقعد الخشبي القديم وعكازها إلى جوارها , دنوت منها قائلا : - هل تسمحين لي أن أجلس على المقعد؟ وافقت بهزة رأس خفيفة . آه أيتها العجوز غاب رفيق عمرك ولا يبقى لك سوى الذكريات . لا أتساءل عن سر غيابه وغياب عكازه . تلبس المرأة ثيابا سوداء , وتبدو انحناءة ظهرها . ألمح مسحة من الحزن على وجهها تحوم حول المقعد أطياف عمرها لن يجلسا معاً ولن يقطع لها تذكرة سفر لتزور ابنها من يلقي عليها تحية الصباح وتحية المساء؟ كيف تواجه أيامها المقبلة ؟ وكيف تستريح كتفها إلى كتف أخرى؟ هل تشدها الذكريات الغابرة ؟ هل تجد من تتنزه معه , وتعيش لأجله؟ هل تتابع أعوامها وحيدة ؟ وتلتفت إلى ماضيها البعيد أم تتطلع إلى مستقبلها الغامض؟ يخيل إلي أني أسمع صوت رفيق عمرها الغائب وهو يحدثني عن لقائه بها في المدرسة وهي تصغره بسنوات لكنه أحبها حبا شديدا وقد منحته الفرح والعطاء . آه كيف يمضي الزمن؟ وكيف تمضي ساعات الغروب كل يوم والعجوز وحيدة؟ وبعد لحظات رأيت شفتيها تنفرجان عن ابتسامة رقيقة . يشرق وجهها , وهي تقف وتستند إلى عكازها لملاقاة أطفالا يتسابقون وهم يصيحون بمرح . - ياجدتي .... يا جدتي يجلسون معها على ذلك المقعد الخشبي القديم . عيناها تبرقان بالحب أتأمل ملامحهم العذبة . إنهم يشبهون صاحب العكاز الغائب ويشبهون هذه المرأة ذات الثياب القاتمة وتستقبلهم بسرور ورجاء وتنحني عليهم كعريشة ياسمين .